لا يبدو زكريا محمد راغباً بالاستراحة من الكتابة. بل لا يبدو بحاجة إلى هذه الاستراحة أساساً. قلة هم الكتّاب الذي يعيشون من أجل الكتابة وفيها، بحيث تكون الكتابة غايةً بذاتها، ووسيلةً إلى ذاتها، وزكريا محمد أحدهم. لا فارق إن كانت الأدوات هي الورقة والقلم أو الكيبورد، أو إن كانت الورقة، كفضاء كتابةٍ، بيضاء أم زرقاء. بل ربما كان الفضاء الفايسبوكيّ الأزرق محرّضاً أكبر على الكتابة. يتعامل محمد مع الفايسبوك كمختبر تجريبٍ شعري، يكتب القصيدة، ثم قد يعدّل فيها، أو يحذفها ليعيد كتابتها. وأياً يكن ناتج هذا المعمل «الافتراضي»، تبقى القصيدة (وكاتبها) في حالة توتّر لا ينطفئ، حتى بعد تحوّل القصيدة إلى الورق بعد نشرها في كتاب. قام زكريا محمد بقلب المعادلة بأكملها. نقل المختبر من الفضاء الافتراضي إلى الورقي بحيث باتت قصيدته «ناقصةً» دوماً ولا سبيل لاكتمالها. وربما كان هذا النقصان هو المعنى الفعلي لكمال الشعر. لا يكتمل الشعر إلا في كونه ناقصاً، وراغباً بالمزيد، مثل نارٍ لا تشبع.يكتب محمد قصيدته مستعيناً بأداة وحيدة هي الطبيعة. لكنّ جموح الخيال وبراعة الابتكار وخبرة التعامل مع اللغة (واللغة طبيعة من نوع آخر في نهاية المطاف) تجعل الطبيعة في قصيدة زكريا محمد لا تشبه الطبيعة كما نعرفها ونفهم عناصرها، بل باتت مثل قصيدته جامحةً دوماً وعصيّة على التصنيف. ينطلق محمد في مجموعته الجديدة «علندى» (دار «الناشر» - عمان/ رام الله) من حيث انتهت مجموعته السابقة «كشتبان». الطبيعة ذاتها، واللغة ذاتها، ولكنّ القصيدة مختلفة وجديدة. إنْ كانت «كشتبان» محاولةً لتكريس ملحمةٍ شعريّة ضمن شروط عصر الفايسبوك، فإنّ «علندى» تحاول فعل العكس تماماً. إنها تنسف كلّ التأطيرات التي قد تضيّق على القصيدة لتجعلها متفرّدة وبنت عصرها كلياً. نجد هنا القصائد كما هي، وكأنها مشاريع لم تنته بعد، ولكنها مستقلة بذاتها في آن. تبدو مثل كلامنا اليومي، مثل تواصلنا الافتراضي، مثل أصداء شريط الخبر العاجل، سريعةً، حادةً، جارحةً، مترددّة.
منذ أولى القصائد في «علندى»، يعلن زكريا محمد معادلته الجديدة. إنه أعزل، منعزل، لا أحد معه إلا الطبيعة بكل تناقضاتها. كلّ الأشياء الكبيرة، وحتى ظلالها، قد تلاشت أو لم تعد ذات مغزى، ليتابع الشاعر طريقه صعوداً (حيث لا طريق إلا الصعود إلى مرتفعات خانقة) متأبطاً بقجته الوحيدة التي هي الغناء، حيث يعيد الشعر إلى أصله، بكونه غناءً يائساً بالضرورة، «غناء بلا أمل»، «مخلّفاً ورائي كل ما يرمي ظلاً، وكل ما يطرح ذكريات». وفي ذلك الصعود، تُختزل الطبيعة والإنسان إلى عناصرهما الأوّليّة. الريح، الماء، القصب، الدم، النجوم، الصراخ، القلق... والشعر. فتمسي القصائد مثل شذرات وصلتنا من حضارة قديمة، قريبة وبعيدة في آن، نتشارك الأدوات والطبيعة والمكان، ولكن نختلف في الأمزجة. وهنا تحديداً تكمن فرادة شعر زكريا محمد حيث يكون القارئ أمام خيارين حياله، إما أن يعتنقه كلياً أو يرفضه كلياً، ولكنّ اللوعة ستلتصق به، وتنفذ في روحه دون أن يدرك. في هذه المرتفعات، في هذه القصائد، تنسحب الآلهة خلف الستارة تاركةً الإنسان وحيداً ليرسم كونه بنفسه، فيفرد بقجته ويترك لأصابعه ولوعته حريّة الخلق، «سأثقب لك أيضاً بإصبعي عشرة أنجم في السماء كي تهديك/ سأفتح لك سبعة ثقوب في القصبة كي تبكيك».
وقصبةٌ كهذه مع سماءٍ كهذه ستولّدان بالضرورة لغةً جديدةً قد لا تتّسع لها المعاني القديمة، بل لا معنى للمعنى هنا، «فالمعنى تخريب». هنا يصبح الصمت سيّداً لتعود اللغة أيضاً إلى أصلها، إلى إيماءات، حيث «الكلمة ستجمد على الشفة، والوتر سيُقطع». ويصبح الصمت ثقباً أسود يمتص اللغة بأكملها، ويكتب لغته الجديدة، لغة لا تكتفي بجملة واحدة أو معنى واحد أو سماء واحدة أو حتى مصدر إلهام واحد. لغة تتخلّى عن الذكريات عبر دفنها في تربة القصيدة الجديدة، ولا تترك إلا الأحلام والخيال. لغة تتشظّى، فتتصادم عناصرها ووظائفها، ويبقى واجب الشاعر إعادة تركيبها وتكوينها على هواه، مثل طفلٍ ينثر ألعابه ويعيد صفّها كما يحلو له، واضعاً رأس دميةٍ على جسد حيوان، أو يدسّ مكعّباً في هيكل قطار خالقاً عالمه المتفرد الذي لا يفهمه سواه. هكذا هي المفردات (والمعاني) الجديدة في «علندى». اليأس قط سياميّ مرةً، وصدفة قوقعة مرةً، وحديقةٌ سريةٌ مرةً. وتختلف الصورة كلياً مع اختلاف ترتيب عناصرها، وإن بقيت العناصر هي ذاتها.
رغم التقارب الزمني وقاموس المفردات والعوالم بين «كشتبان» و«علندى»، إلا أنّ زكريا محمد نسف لغته القديمة كلياً ليبدأ مشروعاً تجريبياً جامحاً في مجموعته الجديدة «علندى». مشروع يبدأ بالليل وينتهي به، يبدأ بالصمت وينتهي به، يبدأ باللغة ولا ينتهي، بل يتوقّف مؤقتاً في انتظار صمتٍ آخر، وعدمٍ آخر، «فالقصيدة كومة كبيرة من العدم». يضع محمد في هذه المجموعة نقطة انطلاق جديدة له، لا نعلم (وربما لا يعلم هو أيضاً) كيف سيكون مسارها، ولا حتى نهايتها وإنْ اعترف أنّ «البداية خراب والنهاية أخرب».