ترجمة أحمد محسناستغرقني الأمر أقل من ساعة لأشعر بالتعب وأنا أقود. شعرت بخاصرتي تحترق، عاد الألم، لكني قررت أن لا أهتم. بدأت أشعر بالقلق عندما لاحظت أني لم أعد قادرة على التحكم بعجلة القيادة. في دقائق قليلة، أصبح رأسي ثقيلاً، وبهتت المصابيح الأمامية للسيارة. فجأة نسيت أني أقود. بدلاً من ذلك، تولد لدي انطباع، أنّي على البحر، في منتصف النهار. كان الشاطئ فارغاً، المياه هادئة، وعلى بعد أمتار قليلة رأيت علماً أحمر يلوح. عندما كنت طفلة، أخافتني أمي بالقول: ليدا، لا يجب أن تسبحي إن رأيتِ علماً أحمر. هذا يعني أن البحر هائج ويمكن أن تغرقي. مع مرور السنوات، بقي هذا الخوف قائماً، وحتى الآن، ذلك رغم أن المياه كانت أشبه بورقة شفافة تتمدد نحو الأفق، لم أجرؤ على الاقتراب: كنت قلقة. قلت لنفسي، اذهبي، اسبحي: ربما هذا العلم منسي هنا. لكني بقيت على الشاطئ، أتفحص المياه بأطراف أصابعي بحذرٍ شديد. كانت أمي تظهر بين الحين والآخر على سطح الرمال المتحركة، صارخةً: ليدا، ماذا تفعلين، ألا ترين العلم الأحمر؟
في المستشفى، عندما فتحت عيني، رأيت نفسي مجدداً على الشاطئ، لجزءٍ من الثانية، وأنا أنظر إليه بتردد. ربما لهذا السبب، لاحقاً، أقنعت نفسي أن هذا لم يكن حلماً إنما إنذار من الخيال استمر حتى صحوت في غرفة المستشفى. أخبرني الأطباء أن سيارتي انقلبت عن الحاجز الفاصل في الطريق، لكن إصابتي ليست خطيرة. كان الجرح الوحيد في جانبي الأيسر، وهو جرح يصعب تفسيره.
جاء أصدقائي من فلورنسا، بيانكا ومارتا عادتا، حتى جيراني. أخبرتهم أنّ النعاس هو الذي قادني إلى طرف الطريق. ولكني كنت أعرف جيداً أن الأمر لم يكن متعلقاً بالنعاس على الإطلاق. كان تعبيراً من جسدي يفوق إرادتي، تعبير يفوق قدرتي على الشرح، ولأنه كان كذلك فعلاً، قررت منذ اللحظة الأولى أن لا أخبر أحداً عما حدث بالضبط. إن أصعب الحديث عن الأشياء هو عن تلك التي لا نستطيع أنفسنا أن نفهمها.

***

عندما انتقلت انتاي إلى تورنتو، حيث عاش والدهما وعمل لسنوات، كنت محرجة واكتشفت بدهشة أن الأمر لم يزعجني. على العكس من ذلك، تولد لدي شعور ساذج، بأني في تلك اللحظة قطعاً أتيت بهما إلى العالم. للمرة الأولى خلال خمسة وعشرين عاماً تقريباً، لم أكن قلقة بشأن ضرورة الاهتمام بهما. كان المنزل أنيقاً، كما لو أن أحداً لم يعش هناك. لم أعد مضطرة للتسوق وغسل الملابس، والمرأة التي كانت كانت تساعدنا في الأعمال المنزلية وجدت عملاً براتبٍ أفضل ولم أشعر بالحاجة إلى إحضار أحدٍ بدلاً منها.
الالتزام الوحيد المتوجب عليّ كان الاتصال بهما مرةً في النهار للاطمئنان إلى أحوالهما وماذا تفعلان. على الهاتف تحدثتا على راحتهما، كانتا لوحدهما. أما في الواقع فكانتا تعيشان مع والدهما، وقد اعتادتا على الفصل بين عالمي وعالمه. لقد تحدثتا إليّ كما لو أنه لم يكن موجوداً. أما عن أسئلتي حول حياتهما، فكانتا تجيبان بلكنةٍ فرحة لكنها ماكرة، أو بحسٍ لا يخلو من الغضب أحياناً، أو بنغمةٍ مصطنعة عندما كانتا تتحدثان وحولهما أصدقاء. اتصلتا بي غالباً، بدورهما، خاصةً بيانكا، التي كانت تجمعها بي علاقة متطلبة لكنها فوقية، لمجرد أن تعرف إن كان الحذاء الأزرق لائقاً مع التنورة البرتقالية، أو لأرسل لها سريعاً بعض الأوراق التي تركتها في كتاب، أو لأكون متوافرة لأتلقى اللوم على غضبهما، حزنهما، بالرغم من المحيطات والسماء الواسعة التي تفرقنا. كانت الاتصالات الهاتفية تنتهي بسرعة، أحياناً كانت تبدو اتصالات زائفة، كما لو أننا في فيلم سينمائي.
فعلت ما طلبتاه، واستجبت لتوقعاتهما. لكن المسافة فرضت انعدام أي تدخل مباشر مني في حياتهما، تخلخلت قدرتي على تلبية رغباتهما ونزواتهما، شعرت بقلة المسؤولية، كل الطلبات بدت لي سطحية، كل ما يتعلق بهما بدا لي مجرد عادةً حنونة. شعرت أني تحررت بإعجاز، كما لو أن عملاً شاقاً، انتهى لتوه.