في أواخرِ السبعينيات كنت طفلةً ضئيلةَ الحجمِ خفيفةَ الحركةِ متيقظةَ الحواس، تسيطرُ عليّ فكرةُ اكتشاف ما حولي، ويطاردُني سؤالٌ: أين ينتهي العالم؟ قالت طفلةُ الجيران الأكبرُ مني سناً: «العالم ينتهي في طرابلس»، وحينما اصطحبني والدي ذاتَ مرةٍ إلى طرابلسَ شاهدت البحرَ لأولِ مرةٍ فسلمت بأن هذا الحوضَ الكبيرَ من الماءِ هو نهاية العالمِ من هذا الاتجاه. ولكن أين ينتهي العالمُ في الاتجاهِ المعاكسِ، ذاك الذي يصلُ إلى قريتي ويمتلئ بالطرقات والبيوتِ والأشجار!
في تلك الظهيرةِ وبينما كنتُ ألعبُ في سياجِ البيتِ القـَرويِّ راودتْني فكرةُ الفرارِ واستكشاف العالم، فسلكتُ الطريقَ المؤدي إلى مدرسةِ الحيِّ، اقتربتُ من بابِها الحديديِّ المضلعِ بقضبانٍ تتلوى حولَها سلسلةٌ معدنيةٌ عملاقةٌ مختومةٌ بقُفلٍ كبير، وكنت أعرف أن هذا الباب نادراً ما يفتح لأنه يقع بمواجهة الحيِّ السكني، اقتربت بحذر ودفعتُ جسدي الصغير عبر القضبان المتوازية، فوجدت نفسي بداخل فناء المدرسة. مشيتُ بضعَ خطواتٍ نحو المبنى، اقتربت من نافذة مشرعةٍ لأحد الفصول الدراسية، تسلقتها بخفة، وقفزت داخل الفصل.
الفصل فسيحٌ تكتظ جدرانُه بالصور الجميلة، وبابُه كان موارباً فلم أكلفْ نفسي عناء التفكير بما وراءه، أما السبورةُ السوداءُ فكانت تنتصب في الواجهة ملساءَ خفيضةً ودانية، وتغمز لي بجوارِها أصابعُ الطباشير الملونِ التي أعشقُها، فقبضت عليها بأصابعي الصغيرةِ مثل كنزٍ مفقود، ورحت أرسم على لوح السبورة لوحاتي بانبهار: فتياتٌ جميلات لديهِن فساتينُ ملونةٌ وذاتُ كشكشاتٍ كبيرة، ومزهريةٌ على شكل مثلثٍ رأسُه إلى أسفل، ورسمت عصافيرَ كثيرةً تقف فوقَ الأزهار!
اغتبطت كثيراً، وقلت في نفسي سآتي كلَّ يومٍ إلى هنا، ستكون هذه مملكتي وسأقفز فوق المقاعد وأتزحلق على ألواحِها، وسأرسم حوضَ ماءِ كبيرٍ يبدأ من زاوية السبورة، وسينتهي العالمُ عند زاويتها الأخرى. اتسعت أحلامي أكثر فقررت أن أجمع قطعَ الطباشير في صندوق صغير لآخذه معي إلى البيت، وأرسم به على باب مربوعةِ جدي، وفيما أنا أجمع القطعَ فإذا بباب الفصلِ ينفتحُ فجأةً وتصطدمُ عيناي بعددٍ من الرجال شدادٍ غلاظٍ، حينما تفاجأوا بوجودي تسمروا بنظرةِ ذهول عند العتبة.
قبل أن يرتد إليهم طرْفـُهم قفز جسدي الصغير فوق المقعد المجاور للنافذة، ثم طار من النافذة ليحط في الفناء، ركضت بضع خُطوات ثم انزلقت بسهولة عبر قضبان الباب الحديدي الكبير لأجد نفسي في الشارع.
التفتُّ إلى الخلف فوجدت الرجالَ الكثيرين ما زالوا عالقين خلف قضبان الباب الحديدي المقفل ولا تستطيع أجسادُهم الكبيرةُ الانزلاق فاطمأن قلبي. اكتشفت أنني أحمل معي علبة الطباشير الملون دون أن أدري.

* كاتبة من ليبيا