جمال حيدر


مثّل كتاب «ألف ليلة وليلة» مفتتح طريقي للقراءة، في بيت خالتي التي اقترنت برجل من مدينة كركوك، ذات الغالبية التركمانية... كتاب منزوع الصفحات الأولى والأخيرة، ويغلب اللون الأصفر على صفحاته المتبقية. سرقني الكتاب من عالم القراءات الهزيلة، ومدّني بطاقة سحرية على التخيل في بيت كبير وفارغ تماماً، وشكّل لدي أول القيم عن الخير والشر، الحب والمقت، الجمال والقباحة، أنا الطفل الآتي برفقة والدتي من بغداد، نعتلي قلعة المدينة ونسبر أزقتها الضيقة، بعد أن نصلها في حنطور يقلّنا من محطة القطار إلى السلالم الأولى من القلعة، مروراً بالنهر الكبير التي تشف مياهه صيفاً.
يمكنني القول بكل تجرد إنّ الكتب التي قرأتها في مسار حياتي، شذبتني أكثر من تجارب الحياة. كانت بمثابة الملاك الحارس الذي أحاطني، والعشق الدائم الذي رافق أيامي، عشق موسوم بنكران الذات. القراءة أتاحت لي أن أسرق من الزمن عمراً آخر، وحلماً مغايراً. عبر القراءة، اكتشفت العالم للمرة الأولى، العالم بكل تناقضاته وتجلياته، لتغدو تجربة القراءة وشماً عالقاً في الروح ليس من السهولة إزالته.
كانت رواية «الأم» لمكسيم غوركي الخطوة الأولى في مسار طويل. لم تكن الرواية الأولى، لكنها كانت المفتاح لولوج بوابات سحر القراءة. أدب واقعي متخم بالثورة، قريب لغاية الملمس من ذهنيتي في بدايات تشكل الوعي والتعرف إلى أبجديات الفكر الماركسي.
كرت السبحة نحو عوالم أخرى أكثر سعة وأعمق فكراً في الرواية والشعر والفكر والفلسفة... والتصوف العرفاني بكل مقارباته، الذي لا يزال موضوعي الأثير، لموازنة قلقي المخفي بعناية خلف هدوء مخادع. بدأت بالشعر، مثل أغلب الأدباء العراقيين، لكني هجرته إثر عجزي عن الفرادة، في أجواء محتدمة بالشعر والشعراء. ففي العراق حين ترمي حجراً، ستقع لا محالة على رأس شاعر.
ما زلت أقرأ بنهم... كون القراءة هي الدافع الحقيقي للكتابة. القراءة هي الومضة التي تقدح شرارات عالم الكتابة وتلهبها. الكاتب الجيد هو بالأساس قارئ جيد.
بلورت كل تلك القراءات الخميرة التي ستنتج كتابي الأول «الصيف الأخير – دراسة في أعمال يانيس ريتسوس الإبداعية» الذي صدر في بيروت عام 1997 بعدما اتفقت مع ناشره السوري المقيم في الدار البيضاء. تعدد الأمكنة يعيد تشكيل مصائر كتابي الأول؛ أنا العراقي الأصل البريطاني الجنسية، الغائر في عوالم اليوناني يانيس ريتسوس، أنا المنفي البعيد عن مكاني الأول منذ عقود، أجمع كل هذا الشتات الثقافي والجغرافي في كتابي الأول.
الشرارة الأولى للكتاب قدحت في ذهني إثر تنحي ريتسوس عن دوران الأيام اللاهث في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1990، تمدد الشاعر في سريره. رحل وهو نائم، كأنما امتزج الموت بالنوم، أو الحلم بالموت. تمدد، أغمض جفنيه، عالج المزلاج ليفتح بوابة إحدی قصائده ويمضي في أزمنة ملتبسة.
أسهبت في سيرة ريتسوس لما تحتويه من أهمية مرتبطة بإنجازاته الشعرية، كما استعرضت مجموعات تمثّل منعطفات ماثلة من مسيرته

ذلك الرحيل، رحيله، كان بمثابة السطور الأولى من كتاب شرعت بكتابته خشية من ذكرى ستتسرب من أصابعيّ، كحفنة رمل، وكلما شددت قبضتي تنسل أكثر. وضعت يدي على كل ما وشجني بريتسوس: قصاصات، صور، كتب، حوارات صحافية، ذكريات ما زالت عالقة في الذاكرة، نثرتها على طاولة المحبة وبدأتُ الخطوة الأولى في مسار جلجتي الذي سيستغرق ستة أعوام. صدر الكتاب في صيف 1997، تزامناً مع إصابة صديقي الشاعر شريف الربيعي بمرض خبيث، ليرحل بعد أسابيع قليلة. وكأن عنوان الكتاب كان يعني صديقي تحديداً، بأن يكون ذلك الصيف هو صيفه الأخير، وهي القصيدة الأخيرة التي دوّنها ريتسوس وتحمل نبوءة الشاعر أيضاً بأن ذلك الصيف سيكون صيفه الأخير، وهو إحساس مبكر بأن جسده لم يعد قادراً على الوصول به إلى صيف آخر.
أمام علاقتي مع ريتسوس، واجهت مغامرة الكتابة أسئلة عسيرة تفوق قدرتي على تحضير إجاباتها الجاهزة. لذا حرصت على كشف الكثير من غير المطروق بين طياته. كما أنّ ثمة إحساساً بدَين متأخر تجاه مبدع مجتهد إلى حد التضحية بالذات، دفعني صوب إتمام العمل، والعثور على ملامح شخصيته في مجمل نتاجاته الشعرية.. وهو دين ضخم تتأكد أهميته مع دوران الأيام. لا أخفي نيتي بأن يشكل الكتاب للقارئ غير المتجذّر الطريق للوصول إلى أعمال ريتسوس والسحر الكامن في جوهرها، رابطاً بينها وبين العصر الذي أنتجها والبعد الإنساني الذي أفرزها. الكتب الصادرة عن ريتسوس ونتاجاته أسهمت في الكشف عن جوانب متعددة من شخصيته ونضاله الوطني والأممي كإنسان، ولم تقدمه كشاعر بتجرد، رغم صعوبة الفصل بين المسيرتين.
ولأني كنت قد تعرفت إلى ريتسوس ورافقته مدة وتعلمت منه، وتأثرت بشخصيته وبعلاقاته مع الأشياء والأحداث، غدت الكتابة عنه أكثر صعوبة... وأوسع عسراً.
في فصول الكتاب، أسهبت في سيرة الشاعر لما تحويه من أهمية مترابطة مع مراحل إنجازاته الشعرية. في الوقت ذاته، استعرضت 11 مجموعة شعرية منتقاة تمثل منعطفات ماثلة من مسيرة الشاعر. وتناولت بشيء من التفصيل انتماءه العقائدي، كونه ذا مساس فعلي بإرثه الإبداعي، وما يمثل من مشكلة عالقة في الوسط الثقافي العربي على وجه الخصوص، ولأن هذا الانتماء يقدم، مع انهيار المسلمات الإيدولوجية والقيم السياسية الجامدة، مسوغاً لرفض الثوابت المسبقة للإبداع، تحت أي تأثير فكري، إلى جانب حضوره في الشعر العربي.
أجمعت الكثير من الآراء على أنّ الكتاب يمثل خطوة مهمة في مسار الكشف عن ريتسوس والدخول في عوالمه الخاصة. الشاعر عبدالكريم كاصد كتب بعد صدور الكتاب: «في «الصيف الأخير»، استطاع جمال حيدر أن يكون السارد الجميل لمسيرة العذاب الطويلة بين المعسكرات والخيم المهترئة المحاطة بالأسلاك، والمصحات، والعزلة المطبقة إلّا من الشعر، وهو يستحضر الأزمنة في حاضرٍ تنعكس فيه الواقعة والأسطورة، وتجاوزهما إلى ما هو أبعد.. إنها السيرة المعذبة يرويها بين صفحات الكتاب». الناقد والروائي المغربي صدوق نور الدين نشر في صحيفة مغربية «إنّ ما أسس له الكاتب جمال حيدر في مؤلفه «الصيف الأخير»، يتمثل في استكشاف عوالم الشاعر يانيس ريتسوس، وهو في الجوهر، استكشاف تأسس على معرفة ودراية بالشاعر وخصوصيات مساره الشعري. يحق القول بأنه من الكتب التي يمكن اعتمادها مرجعاً عن الشاعر ونصوصه». الشاعر والمترجم السوداني سيد أحمد بلال، أكد أنّ أفضل ما يمكن قوله عن الكتاب هو إعادة قراءته. الشاعر هاشم شفيق أكّد أن الكتاب مهم، واستطاع التقاط ريتسوس عربياً. الشاعر والمترجم المغربي رشيد وحتي كتب على صفحته في فايسبوك بعد مساحة ليست قليلة من الأعوام بأن الكتاب «أهم مدخل عربي لريتسوس. هذا الكتاب فتح في عام 1997 عيني على قارة فسيحة لن أصل إلى قراراتها أبداً».
كتاباتي الأولى كانت كالشفرة، حادة، ومتخمة بأحلام بريئة. أكتب بحبر قلبي وألوذ بما تبقى لدي من أوهام، ومع صدور كتابي الأول، بدأت أتلمس يقين الكتابة الملامسة للروح، كتابة أقرب إلى العبادة، مشرعة على كل الاحتمالات، مثلما كان ريتسوس يكتب تماماً، بعدما منحني الكتاب، وترجمات أخرى لأشعاره ستصدر لاحقاً، كل هذا السلام الروحي. بعد صدور كتابي الأول، بدأت أعمل بتأنٍّ وصمت، غير مكترث أبداً بالواجهات، التقط الخيوط الملونة وأبدأ بحياكة سجادة المفردات، مفردة إثر مفردة، معنى بعد معنى، بصبر عجيب لم أكن أعهده.
عقدان من الزمان مرا، وأربعة كتب صدرت، لكن مذاق ذلك العام كان مميزاً، ولا أعتقد أنه سيتكرر ثانية، فالتجربة الأولى دائماً هي الأكثر رسوخاً في الذاكرة، والأشد انعطافاً في مسارات الحياة.