يعتبر الكاتب السوري زياد عبد الله، أنّ السؤال الكبير المطروح إزاء ما يحدث في سوريا؛ هو «كيف سنرويه؟» إذ لا تقتصر المسألة على «أن نرويه» وحسب. بالتالي، فإنّه يقدم الشكل على الموضوع في كتابه «الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص» الذي صدر أخيراً عن «منشورات المتوسط»، وضمن هذا السياق تنبع أهمية الكتاب. تقوم نصوص المؤلف الأربعة على أسس واضحة ومشتركة، إذ يركن زياد إلى لغة مجازية تحتمل التأويل السياسي حيناً وتفترق حيناً آخر على يقين اجتماعي سمح. لقد بدا زياد مجتهداً ببناء سرد محكم الأدوات، فقد عيّن بلغته المجازية عالمين متوازيين؛ متخيل سردي وواقع ملتهب. كما عمد إلى توظيف السرد لتصوير مدن لا يجد فيها أبطاله فرصة للاستمناء، بينما يعيشون حباً محروماً وشهوة مشوهة ورغبة لاهبة في النجاة. لا يحتاج المرء جهداً لإسقاط ذلك على الأحداث في بلدهِ، سوريا، وقد جعل زياد الشكل مواراةً فادحةً لذلك!
يروي خوفه الأصيل من الشرطة، والذين يسعون إلى «هداية» الناس

في القصة الأولى التي وسمت الكتاب باسمها، يروي صاحب اسم المنقوص خوفه الأصيل من الشرطة، ومن كلّ الذين يتصدون لمهمة حماية الناس، كذلك يعاني خوفاً من الذين يسعون إلى هدايتهم. يتعرض للضرب بالعصي عند الجامع بعدما طلب من الشيخ أن يخفض صوت الأذان، وللضرب بالأحذية والأرجل والأيدي في مركز الأمن بعدما طلب والد ليلى منهم الاهتمام بهِ على سبيل «فركة إذن». هنا تنكشف حكاية صاحب الاسم المنقوص مع ليلى التي تكون على النقيض منه، فهو رعديد وهي غير مبالية بالأخطار المحدقة بحبيبها الذي صيّره الخوف عاشقاً عذرياً «يجد في الحب بلواه» ويتخذ من قصائد قيس بن الملوح لازمة تتكرر في الكثير من حواراته مع نفسهِ. وهو الشكل الذي اتخذه الحوار في القصة الطويلة التي تُقرأ بهوس شديد وملح لتحليل الرمزية التي راح الكاتب يرميها على المشاهد أو بين الأفكار. إذ إنّ اليد الاصطناعية التي وجدها في «محشر النقل العام»، ستتحول إلى ظاهرة تشغل بال الناس في المدينة التي سيراها صاحب الاسم المنقوص ارتداداً لتصوره عن العالم. وقد أخذه ولعه باللغة إلى نسيان توجيه النداء لصاحب اليد الضائعة والكتابة، عوضاً عن ذلك، عن اليد نفسها. ما قاد إلى تأويلات عدة، ستصير أحداثاً واقعية لمظاهرة ضد الذباب وأخرى ضد شفرات الحلاقة ومظاهرات لأنصار الألوان البرتقالي والأخضر والأحمر، في حين سيقف «الرجل القابض على جهاز التحكم بالمدينة» مغتبطاً بالفوضى التي تمضي إلى نهاية مفتوحة، كما قصة زياد، بعدما جعل من بطلهِ ذريعة، تحتاج إليها الجموع كي تمارس غضبها المتراكم في وجه المدينة وضد الذات!
في قصته الثانية «الحوادث غير اليومية للطبيب الأخير» يبني الكاتب، انطلاقاً من الفكرة، نموذجاً مقابلاً للحرب التي تدور في المدينة البعيدة، ناقلاً وجه الحرب الأقسى. أن يكون في مدينة تشهد حرباً شرسة طبيب أخير، ما جعله يضمن استمراره حياً، إذ لن يقتله المتحاربون. تصله كلمة السر إلى مكان إقامته، ويخرج ليلاقي الحواجز. يعتمد زياد، على الحساسيّة السوريّة لتمييز هويات عناصرها، وفق تدرّج تجهمهم. لكنه لا يصرح بذلك إلا بنبرة كلمة السر من «مساء الخير والأمل والرواق» إلى «النجم ساطع سبحان الله» مروراً بـ «القطة سوداء بإذن الله». محمياً من القتل لكونه الطبيب الأخير، سيقع في حبائل حب شهواني في «المستشفى المضاء». لقد كان صوتها فخاً غير متوقع جعله ضحية عملية خطف ناعمة ليصبح طبيباً حصرياً لمجموعة واحدة من المتحاربين، في حين ستمضي الحرب في طحن أسباب الحياة، ويتحول السؤال من: «هل أنت الطبيب الأخير في المدينة؟» إلى عبارة سرديّة جافة ومقلقة تقول: «أنا الطبيب الأخير في المدينة».
يأخذ زياد عبد الله القارئ من المدن الملتهبة إلى مدن «مفرطة الحداثة»، لكنها «متخمة بالعادات» في الوقت نفسه. سيمثل راشق البيض السيد بديع الصفار مثالاً عن مثقفين برزوا كما في كلّ الأزمنة، إبان الحروب الأهلية التي تشهدها بلادهم، حيث تصير أوجاع الناس في مدنهم الأصلية سبيلاً لحياة مترفة وعصرية. إلى حين يبتكر الراوي حدثاً صادماً بوفاة أخ بديع الصفار أثناء تغطيته إحدى المعارك التي سيقف الصفّار في الجهة المقابلة منها. تتخلى عنه زوجته وتترك رسالة في حذائه، ويصحو الرجل على حياة لا تعنيه، لكن في الوقت نفسه لا يملك الجرأة على التخلي عنها. هنا لا يتأخر الراوي في إنقاذه، إذ يخلق حدثاً، سيدفع ببطله إلى الترحيل إلى مدينته الأصلية، ليدرك بديع الصفّار بهجة لم تزره منذ زمن طويل.
ينهي زياد كتابه في «جزيرة الكنز» عبر مماحكة طويلة بين أحد الذين هربوا من الحرب، وبين زعيمهم وكبير المقاتلين. يجعل زياد من حوارهما جدالاً لا طائل منه، لكنه محاكمة صادقة ونهائية لسنوات الحرب التي تكاد تصير ثقافةً، حيث «المأساة حاجة وجودية» و«الأدرينالين القيمة الاستعمالية الوحيدة»، الخوف رفاهية، واليقين موزع على المحاربين بأنّهم على حق، في حين، بحسب المحارب الهارب «لا يمكن أن يكون ذلك باسم الوطن».