خصّتني بعنايتها هذا الصباح، أعدّت لي قهوتي الثقيلة، أخرجت لي بدلة الأحد، مسحت حذائي الرياضيّ، ركّزت جيّداً على بقعة كانت قد تجاهلتها منذ مدّة ولم تجتهد لإزالتها.لم تلاحظ قلقي وإصراري على الاِعتناء بالصغير ليل نهار، أمس استيقظت مرتين، الشيء الذي لم أفعله أبداً منذ ولادة ابننا أي منذ سنتين، سألتني إن كنت بحاجة لها قبل أن تغادر؟ لكنني اكتفيت بتحريك رأسي نفياً.
التقيت بها في مطار العاصمة الفرنسيّة. كانت عائدة من رحلة إنسانيّة من السودان وكنت أحمل القليل الذي أملك، جئت باريس طالب علم. كانت هذه حجّتي للهرب من قريتي العائمة في الفقر والتخلف. لم أخجل من الرد على ابتسامتها، الشيء الذي كنت لا أجرؤ عليه قبلاً. هي لا تستطيع أن تنكر أنّني كنت لطيفاً ولا قريباً إلى قلبها. نفّذت كلّ رغباتها. عاشرتها بمقاييسها، لم أناقشها يوماً ولم أفرض عليها شيئاً من ثقافتي التي يبدو أنّني استغنيت عنها منذ وضعت رجلي على أول درج في الطائرة التي أقلتني إلى هنا. أحياناً أحسّ أنّها تستفزني أن أفعل وأعارضها.
فهل كان يجب أن أحتجّ حين أطلقت على ابني اسم «جوهان»؟
تزوجنا وأنا طالب جئت باريس بجواز سفر وكثير من أحلام الطلبة الأجانب التي سرعان ما تتوه وتتبدّد في الشوارع الباريسية بين فواتير الغرفة ووجبات المطاعم وغسل الثياب و... لمَ لا بعض السجائر وزجاجات البيرة من الصنف الرديء الأبخس ثمناً. لكنني حين التقيت بها، هي الفرنسيّة المحبة للبشر دون التدقيق في جنسياتهم وألوانهم، لم أتردّد أبداً في التدرب على بعض الرقصات الحديثة كي لا أخجل من مرافقتها إلى النوادي التي يرتادها الطلبة في العادة. لم أخطّط للتورط معها في بعض تفاصيل يومياتها التي لا تشبه في شيء ملامحها الفاتنة التي استغنت عن كلّ أنواع الماكياج. كانت فقط تثير قلقي، أمّا أناقتها البسيطة فهي لا تستحي أبداً من الاعتراف بأنّها تكتفي بالثياب المستعملة التي تقتنيها من هذه الجمعيات التي تجمع التبرّعات بكلّ أشكالها من ثياب وأثاث وكتب وتعيد بيعها بأثمان زهيدة لتشتري بعائداتها مواد غذائيّة تتبرّع بها للمشردين، وكلّ من عبثت بمصيره عواصف الحياة المجهولة. بينما مرتبها كممرضة ليلية يخوّل لها أن تدخل محلات «شانيل» لو شاءت دون أن تتردّد. وهي تدعوني إلى بيتها لأوّل مرّة، طلبت مني أن أترك سجائري خارجاً، ثم شرحت لي بأنّها لا تحب اقتناء ما يزيد عن حاجتها ولا ينفعها في شيء، حتى لا أفاجأ ببيتها الخالي من الأثاث «الديزاين» كما قد أتوقع. بل أكثر، فأغلب أثاثها مما يتخلّص منه بعض جيرانها المغرمين بالديكور الجديد، وما تعلن عنه بعض المواقع المتخصصة في عالم «المجاني». إنّه أسلوب حياة يقتسمه أغلب الشباب الحديث الذي لا يريد أن يسهم في تحميل الأرض من القمامة أكثر مما تحمل، أنا الذي لا يحمل من المبادئ سوى إنقاذ نفسي وتسليتها.
قالت لي ذات مرة رميت فيها كيساً من البلاستيك: تخيّل أنّ هذا الكيس سيستمر في تشويه الأرض لآلاف السنين، عدت ألتقطه. لم أعترض ولم أقل لها أبداً إنّني أرمي بكلّ مبادئها وكفاحها في المزبلة!
لكنّني بدل من ذلك أمنت على عقيدتها بأن اشتريت دراجة قديمة لأرافقها في جولاتها الأسبوعيّة خارج باريس لجمع أكياس البلاستيك التي تنمو على الأشجار كفواكه سامة بألوان متعددة! أسعدتها مبادرتي وفهمت أنا أنّني وجدت السبيل إلى قلبها.
كنت أمني نفسي في ذلك المساء بمأدبة جنسيّة، لكنها أوضحت لي قبل أن أدخل شقتها، أنّها لا تمارس الجنس من أول ليلة، فهي من هذا الجيل الجديد الذي لا يستهلك الجنس بل يمارس الحب وهي تفضل انتظار الحب والتعرّف عليه بالتدريج بدل أن تتجرع هزائمه منذ أول ليلة؟ كان سطل الماء بارداً على جسدي المشتعل، أنا الذي كنت أمني نفسي بليلة كالتي أشاهدها في أفلام يقظتي ونومي. وبمادة دسمة لحكاية ساخنة أرويها لشريكي الإيراني في الغرفة.
لكنّها وعدتني بشيء دافئ بعد عودتها من رحلتها الإنسانيّة إلى فلسطين. جلبت لي بعض البرتقالات وباقة زعتر والكثير من المآسي عن شعب مضطهد، وأطفال يموتون من قلة الدواء والخبز، ثم أسرت لي أنّها تبرعت بكلّ ما كان لديها من مال لإحدى الجمعيات التي ترعى اليتامى في غزة قبل أن تعود. استمعت إليها دون أن أبدي رأيي ككلّ طالب حاجة. وبين حكايتين وبرتقالتين، عرضت عليها مشاركة حياتها، لم أخف عنها أنّني قد أرحل إلى الجزائر إذا لم يسو وضعي بالزواج. لقد كنت دائماً سرّة الكون، ما العيب لا أرى سواها: نفسي. أنا لم أولد مثل هؤلاء بملعقة عسل. في قريتي المتقشفة حتى الحمير والبغال تتمنى الهجرة، فما عدا المدرسة التي اهترأت جدرانها، والجامع الذي لا يؤمه سوى العجائز، والمقهى الذي يكتظ ضجراً ووسخاً. لا شيء يثير الانتباه. فمنذ سنوات لا أحد عاد. بقي أبي وأمي وبعض كبار السن فقط ممن يصرّون على الاعتناء بأشجار الزيتون والرمان، أما أنا فأظن أنني لم أرغب في الاعتناء بأيّ شيء أو شخص آخر سواي.
لم تخبرني لماذا قبلت الزواج مني؟ ربما اعتبرتها مهمة إنسانيّة، فلم تتردّد كما عادتها. صراخ طفلي بدأ يثير التساؤل، في المستشفى سألوا عن أمه ثم طلبوها على عجل. عملية الختان كانت صعبة، لكنها ناجحة. عندما جاءت حملته واختفت، عدت إلى البيت لم أجدهما.

* كاتبة جزائرية