الهروب من دمشق، الهروب إلى بيروت، من تلك المعجزات الصغيرة التي يحملها الأصدقاء بين أيديهم، من تكرار تلك الجملة الواهنة «لن أغادر»، من «حاصر حصارك لا مفر»، من كل الروعة التي يخلقونها كي يُبعدوا صور الدم والأشلاء، وأصوات القذائف واحتمالات الموت عن آخر لقمة يغمّسونها بطرف صحنهم اليومي، من المشي طويلاً في العتم بلا وجهة ثم دخول صخب البارات مع أشخاص لا تعرفينهم.. الدوخان مع سحب الدخان، ثم العودة كلا منا وحيداً إلى المنزل.إلى بيروت إذاً، سارقة المال مقابل شرفة تُطل على جسر وتلك الأضواء التي تخفت تدريجياً، ثم، رافعة بناء عالية!
ثلاثة أشهر، لم أفعل شيئاً سوى الجلوس مقابل تلك الرافعة، كانت مثلي تُجهز على شيء ما بتعالٍ وعدم اكتراث.
حياتي بهذا الشكل، رافعة بناء بعلو مئة متر، تصعدين الدرج القائم بين قضبان الحديد برُهاب المرتفعات، تصعدينه درجة درجة وأنت تنظرين إلى الأسفل، ثم تجلسين بغرفة المحرك، لتُطلّي على الأسطح، تضمرين صراخاً وعويلاً بكاتم صوت، تتركين في الأسفل الأحاديث وما عليك إتمامه أو قوله أو سماعه في لحظة اعتراف باللاجدوى، اعتراف بالنفس بحجمها الحقيقي، بالضآلة التي نستطيع أن نقدّمها في هذا الخراب وهذا الظلم وهذه اللاإنسانية، يبدو كاستسلام للموت المجاني الذي يطال كثيرين، من نظن أنهم ليسوا أفضل منا، وأن بقاءنا ورحيلهم لسبب مهم: أننا قادرون أن نقدّم شيئاً بدلاً عنهم، والحق أننا ميتات متكررة لموتهم، للمعاني الفقيرة التي رُبيّنا عليها، بالآمال الواهنة التي نصنعها، المعايير المغلوطة المخلوطة التي اقتنيناها، وكل تلك الذرائع التي تقينا من خوف التحوّل إلى رقم.
تصعدين الرافعة بالغبطة نفسها لتطلّي منها على شاهق، تودين الإغماء.. الغيبوبة.. أن تُخطف أنفاسك منك، وأنت ترين رب الأشياء الكبيرة يصبح رب الأشياء الصغيرة، وما من شيء يتغيّر، يصبح كل شيء بالحجم ذاته: أرضاً مستوية بصوت واحد.. لون واحد.. تتماهى العظمة مع الوضاعة، تتساوى الأحقاد مع التسامح، الرقة مع الغلاظة، الصخب مع السكينة، ولا تسمعين سوى الزئير القادم من الخلف... من عظمة رأسك الخلفية، وما من شيء يمكنك القيام به في ذلك الصندوق الصغير أكثر من فك حمالة صدرك أو إطلاق ريح وأنت ترفعين الصخرة المربعة (صخرة سيزيف) بخفة وتضعينها على أسطح المنازل، كل يوم يتكرر هذا العقاب الوظيفي «أن ترفع شيئاً ما» دون شك أو ريبة بأنها ستسقط أو تتدحرج، فتقتل أربعة أو عشرة أشخاص «على سبيل الصدفة» وأنه ما من آلهة ستُعاقبك.
حياتكِ رافعة تتحرك ببطء يميناً ويساراً، رأس العالم «رأسك» يتلفت ببطء، الوقت يمّر ببطء، وأنتِ على مقود صغير تتحركين بمسافة محدودة، تضغطين على زر بين الحين والآخر ببطء، الحر أشد في الأعلى، البرد أشد في الأعلى، الشمس أيضاً تمر ببطء وعدالة ظالمة على السينتيمترات الملونة حتى على من يموت وهو يطلب المزيد.
تسمعينَ هدير الحياة المنخفض بمقدار الاستنفاد الذي يستلب منك كيانك ببطء، بصلابة الصوت المتوّحد التي تعتبر الأقوال والصرخات والهمهمات «الهدير اللامُدرَك».
تتوارى العزلة في الأعلى، تصبح اختباراً للعوز وللتخلي، كذلك لن يرمُقك كل ما يُحيط بك بتلك النظرة، فأنتِ «مفقودة» بالنسبة إلى الجميع، تنتمين إلى من يوجدون دائماً على هامش ما ينتمون إليه، تتنفسين بجوار العالم، «لا تنظرين فحسب إلى الحشد الكبير في الأسفل وإنما كذلك إلى الفضاءات الكبيرة الكائنة التي تغطيه».
تُغيّبك تلك الرافعة كقوة لكن في الوقت نفسه قوة مؤثرّة ومُضمرة.
جاهلةٌ أنتِ مثل هذه السطوح التي أخفقتِ بإتمامها، هادئة وطبيعية دون فائضٍ لتشعُري به وأنتِ تنظرين إلى النهار من الأعلى وهو يموت.
* كاتبة سورية