ما أنتجه العراق خلال فترة وجيزة نثريّاً، كان مثيراً للاهتمام، حيث عناصر الحرب والمرض والتفجيرات تركت أثراً بالغاً في الجملة النثريّة والشعرية المعاصرة وبلورتها كحقيقة. هذا ما يراهن عليه العراقي علي ذرب (1988) في ديوانه الثاني «سأتذكّر أنني كلب وأعضّك أيها العالم» (دار مخطوطات/ هولندا)، بعد باكورته «فراغ ناصع البياض» (2015). البداية اللافتة هي العنوان الذي اختير بلا رتوش، وبعناية فائقة تفصح عن كمّ اختزالي للغة، بالإضافة إلى التمرّد، حيث تصبح العبارة بعد اكتمالها: «سأتذكّر أنني كلب وأعضّك أيها العالم كي تتأدّب». ثمّة نص يفصح عن نفسه من خلال القراءة المتأنية. نص يبين تأرجحه ما بين النثر والشعر والتفاصيل اليومية التي غدت عبر اللغة نثراً ثريّاً. تغدو الكتابة تأريخاً للواقع الخام ضمن نصوص المجموعة من دون أن تكون الكلمة ثقيلةً على التأويل، إذ يبرز المعنى واضحاً لما يودّ الشاعر قوله لنا.
يزحزح أعضاء الجسد ووظائفها المألوفة ليعيد خلقها بما يشبه لوحةً سورياليّة
لا شك في أن اللغة هي الكائن الأكثر قسوةً وصلابة وخيانة في الوقت نفسه. لجأ أحد مؤسسي ملتقى «ميليشيا الثقافة» الشعري، إلى لغة جديدة، وإلى مفردات يومية تضجّ بالشعريَّة، واثباً فوق الجماليّات الكلاسيكية للمفردات. تقترب التراكيب المستخدمة من تراكيب حرب، إن جاز التعبير، كأنّ الغاية من اللغة في الديوان هي مجاراة الحرب القبيحة الوقحة والمؤلمة بلغة منتقاة بعناية، هي في النهاية النقيض لتلك الحرب. بلا مبالغةٍ، أو تضخيم للموقف، يمضي علي ذرب نحو مناطق غير مأهولة بالنسبة إلى الكتابة: «يخرجُ منك بشرٌ يعضّون أعصابنا/ يخرجُ منك الله ونساءٌ بائرات/ وثلاجاتُ المنازل الفارغة/ يخرجُ منك الأعداءُ وخراطيم المياه/ وسراويلنا الداخلية/ يخرجُ منك كلّ شيء، كلّ شيء».
الحرب هي لغة نصوص وقصائد «سأتذكّر أنني كلب وأعضّك أيها العالم» في المجمل، التي لا تشبه إلا حياة الشاعر الذاتيّة وما يحصل حوله، إلى درجة التطابق. هكذا تبدو النصوص متخفِّفة من أعباء الاستشراف المستقبلي وما ستؤول إليه الأحوال في ما بعد. يحل مكانها حديث الميليشيات المتصارعة والرصاص التي تكسر هالة الشاعر/ النبي. للجسد والوجوه دلالاتٌ عميقة في الأعمال الأدبية، فهناك علاقة متينة بين الواقع الفعلي لأعضاء الجسد، وبين الواقع الكتابي للدلالات المستخدمة للجسد. لكن كلمات مثل «ذراع، ساق» في نصوص علي ذرب، تعد كلمات مفتاحيّة للولوج إلى عالمٍ مغاير لواقعية الجسد وفيزيائيّته المعهودة. وفيما تعد النصوص الأدبية العربية التي شرّحت الجسد لغةً قليلة نسبياً، يستخدم ذرب خيالاً باذخاً في إعادة تركيب الجسد. يزحزح الشاعر العراقي معاني الأعضاء ووظائفها ليعيد تركيب المفاصل والوجوه عن طريق اللغة والخيال المجنّح. ولعلّ قصيدة «المدينة في بيتنا» هي الأشدّ دلالةً على ذلك، إذ تشبه لوحةً تشكيلية سورياليّة تعتمد على الفوضى لخلق نظام ما. هنا يفكّك مشاهدَ يومية ويعيد ترتيبها كيفما قدّر له خيال اللغة: «أحدهم يقطع ثدي أخته/ ليشرب به الماء/ آخرون يتسلّقون الجدران/ ليدخلوا في ثقوب/ بعيدة عن الأنظار/ فتاةٌ تضع أبيها صاحب التجاعيد الكثيرة/ على طاولة الطعام/ تمرر المكواة عليه مراراً/ كي تعيد له شبابه». هذا الترتيب المغاير للكائنات المحيطة بنا، يجعل من نصوصه وأشعاره وثيقةً ضدّ كل شيء منظم سلفاً. وطالما أنّنا نعيش في زمن الحروب والفوضى، فلا ضير من تغيير الثوابت وإعادة رسم العناصر كتابيّاً ولغوياً في أقلّ تقدير. وهذه هي رغبة علي تحديداً من ممارسته الكتابية، وهي أقلّ ما يمكن أن يفعلهُ شاعر يعيش في هذا الزمن الحربي بامتياز.