يعدّ جون بيرجر (1926) أحد الكتّاب الأكثر نفوذاً خلال نصف القرن الأخير. أعماله مجدَّدة في الشكل والجوهر، وذات أثر عميق في ثقافة هذا العصر، وهو من بين أبرز الأسماء المرشحة لجائزة «نوبل» منذ سنوات. لا تزال الأوساط الثقافية في بقاع شتى من العالم تواصل الاحتفاء بعيد ميلاده التسعين هذا العام، وآخر تلك الاحتفاءات ذلك الذي أقامته المكتبة البريطانية. تتوزع أعماله بين السرد والشعر والتصوير والسينما والدراسات النقدية والفكرية ذات المنحى الجديد والراديكالي. أشهر هذه الأعمال كتابه عن بيكاسو «نجاح بيكاسو وإخفاقه»، و«وجهات نظر» ودراسته الرائعة «طرق في الرؤية» التي قدمها بيرجر بنفسه عملاً تلفزيونياً في حلقات على تلفزيون «بي بي سي»، وتعتبر اليوم أثراً كلاسيكياً تعتمده الجامعات المعروفة. في الأدب، حازت روايته «ج» جائزة «بوكر» عام 1972، فتبرع بنصف مبلغها لمنظمة «الفهود السود»، والنصف الآخر لدعم دراسة عن العمال المهاجرين في أوروبا، ما أثار ضجة كبيرة حينها. ارتبط بالقضية الفلسطينية، وربطته بالشاعر الراحل محمود درويش تحديداً وشائج عميقة. أخيراً، صدر كتاب بعنوان «مسامرات» عن «دار بنغوين» البريطانية، تضمن مجموعة مقالات ورسومات وملاحظات وذكريات للكاتب الذي يقيم حالياً في باريس ليحظى بفرصة من الهدوء والسلام بعيداً عن ضجيج ونفاق ما سماه «الليبرالية الجديدة». حول ألبير كامو وياسمين حمدان وتشارلي تشابلن، وبعض الملاحظات الشخصية، تربط محطات الكتاب آصرة التذكر وربط الماضي مع تفاصيل الحاضر الماثل. يفتتح الكتاب بفصل «صورة شخصية» العبارة عن سيرة ذاتية. يكتب بيرجر في هذا الصدد: «أكتب منذ ثمانين عاماً، منذ رسالتي الأولى، مروراً بالشعر والخطب والروايات والمقالات والكتب... وصولاً إلى الملاحظات حاضراً. فاعلية الكتابة تدفعني إلى المعرفة. الكتابة، بصورة عامة، فعل في غاية العمق، فعل يتوشج باللغة». يواصل بيرجر سرد سيرته شارحاً الدوافع الحقيقية التي جعلته كاتباً، إذ يقول: «خلال مسيرة الأعوام، كان دافع الكتابة يكمن في القول، وإن لم أفصح عن ذلك القول، فلن يقوله غيري.
يزاوج بين المناضلة الألمانية روزا لوكسمبورغ وصديقته جنين
أرى ذاتي، بعد كل هذه الأعوام، لست كاتباً، بل الناطق للأفكار. بعد كتابة السطر الأول، أجعل المفردات تعود إلى أصول اللغة... وحين تعود، أشعر بأنها تأتي مجتمعة، معاً أو بالضد. بعض المفردات تحوي إيقاعات، وأخرى دلائل. أنصت لمسامرات المفردات، تالياً أراجع ما دوّنته، أغيّر مفردة أو اثنتين، لتنطلق مسامرات من نوع آخر. تستمر بهذه الصورة وصولاً إلى فصل آخر ومسامرة أخرى».
في فصل «هدية إلى روزا»، يزاوج بيرجر بين المناضلة الألمانية روزا لوكسمبورغ، وصديقته جنين البولندية الأصل، فيكتب: «روزا... عرفتك منذ كنت صغيرة، الآن أصبحت أكبر مرتين، حين قتلوك في كانون الثاني 1919 (..) أرغب أن أرسل لك شيئاً كنت قد وهبته إليّ سابقاً في مدينة زاموسك، جنوب شرق بولندا، المدينة التي ولدت فيها. الشيء يعود إلى صديقة بولندية تدعى جنين عاشت وحيدة في مكان قفر، كما فعلت أنت في العامين الأولين من حياتك، في منزل مكتظ بضواحي المدينة (...) حين كنت في المعتقل لمعارضتك الحرب العالمية الأولى، أصغيت لأغنية الطيور التي شيّدت أعشاشها قرب نافذتك، وبفطنة رددت تلك الطيور أغنيتها القصيرة المرحة. حين رحلت جنين عام 2010، وجد ابنها علبة في خزانة تحت سلّم منزلها، جلبها إليّ في باريس، باعتباري الصديق الأقرب لها. علبة مملوءة بأعواد كبريت خضراء».
ويختتم بيرجر الفصل بسؤال حزين: «كيف أرسل هذه العلبة إليك، الأوغاد الذين قتلوك رموا جسدك المشوّه في نهر برلين، ووجوده في مكان راكد بعد ثلاثة أشهر، ساور الشك بعضهم بأنه جسدك. أرسل العلبة الآن، هذا الزمن القاتم على هذه الصفحات. كنت، وأكون، وسأكون، كما كنت ترددين. تعيشين كرائدة لنا، لذا أرسل لك العلبة باعتبارك المثال». في فصل بعنوان «وقاحة»، يحكي بيرجر عن ألبير كامو، موازياً طفولته مع طفولة الأخير، إذ يقول: «عدت أخيراً إلى قراءة كتاب كامو الرائع «الإنسان الأول» الذي يبحث فيه عن طفولته وأعوام صباه، تلك التي جعلته في ما بعد رجلاً وكاتباً. (..) بعد القراءة بدأت أسأل: ما الذي جعل مني راوياً لحكايات، لا شيء يقارن بما وجده كامو».
في هذا الفصل، يعود بيرجر إلى أعوام مراهقته «حين بلغت السادسة عشرة من عمري، هربت من المدرسة الداخلية ووجدت طريقي لمشاركة أصدقائي العيش في لندن. أبي منحني أول دراجة نارية. وحين بلغت الثامنة عشرة، طلبت منه أن يتخذ وضعية ما بغية رسم بورتريه له. حين كان صغيراً، كان أبي تحدوه الرغبة بأن يغدو رساماً، لكن لم يسمح له، غير أنه احتفظ بعمل له نفذه على صفحة من المعدن، رسْم لمجموعة من الزهور وأخرى لي حين كنت صغيراً، رسوم أقرب إلى التعويذة». في الفصل المعنون «ملاحظات حول فن السقوط»، يسلط بيرجر الضوء على الفنان تشارلي تشابلن: «للمرة الأولى عمرك له رقمان، يتسكع في جنوب لندن، في لامبث، مطلع القرن العشرين. قضى معظم طفولته في مؤسسات الرعاية الاجتماعية. أولاً في مصنع، ثم في مدرسة للأطفال الفقراء. والدته حنة، التي كان شديد التعلق بها، لم تكن قادرة على الاهتمام به. قضت معظم حياتها في مصحات الأمراض العقلية. متحدرة من جنوب لندن من بيئة من المؤدين في الصالات الموسيقية. مؤسسات رعاية الفقراء، ومدارس أطفالهم، شبيهة بالسجون، ولا تزال. وحين أفكر في الصبي بسنواته العشر ومعاناته، أفكر بصور زيتية لأحد أصدقائي قضى أكثر من نصف حياته في السجن، حيث بدأ الرسم». ويختتم الفصل بعبارة تشابلن: «كل ما أسعى إليه هو أن أجعل الناس يضحكون».
تتوالى فصول الكتاب ليصل إلى فصل تحت عنوان: «مكانُ لقاء» الخاص بالشاعر العراقي عبد الكريم كاصد الذي أهداه إحدى قصائده المستوحاة من رواية له غير مترجمة إلى اللغة العربية، بعنوان «إيزابيل».
«ملاحظات من أجل أغنية» هو عنوان فصل مهدى إلى المغنية اللبنانية ياسمين حمدان: «ياسمين، حينما كنت أطالعك وأستمع إليك تؤدين أغنياتك الأسبوع المنصرم، تملّكني هاجس لأرسمك... هاجس عبثي فقد كان المكان معتماً للغاية، لم أميز فيه حتى دفتر الرسم على ركبتي. فكنت أرسم خطوطاً من دون أن أرى أو أبعد نظري عنك. ثمة إيقاع في هذه الخطوط، كأن قلمي كان يرافق غناءك. غير أنّ القلم ليس بهارمونيكا ولا بإيقاع. الآن وقد ساد السكون، لم تعد خطوطي العبثية تساوي شيئاً»...