بالرغم من شهرته الطاغية، حتّى عند القرّاء العرب، لا يزال الفيلسوف السلوفينيّ سلافوي جيجك (1949) شبه مجهول. يعود ذلك لأسباب عديدة ليس أقلّها أنّ «الثقافة الجديدة»، حتّى بعد الانتفاضات، لا تزال أسيرة ثقافة السّماع، والأفكار المسبقة، والاختزالات، والبرامج الهزيلة لدور النّشر. جيجك ـــ لدى القرّاء على اختلاف أطيافهم ـــ محصور في مقالتين عن «الربيع العربيّ» والحرب السوريّة، ومُختزَل، على نحو أوسع، في مجرّد مقال عن «الاستمناء»، ومقالات أخرى متفرقة أقل أهميّة. ما يجهله القراء هو أنّ كتب جيجك تربو على سبعين كتاباً تأليفاً ومشاركةً وتحريراً في اللغة الإنكليزيّة فقط، وهي اللغة التي تفرّغ للكتابة عبرها تقريباً منذ عام 1989 عند صدور كتابه «الموضوع السّامي للأيديولوجيا». إذاً، وبشيء من التعميم، جيجك ليس أكثر من محلّل سياسيّ ذكيّ عند فريق، ومهرّج أحمق عند الفريق المضاد.
ما قد يجهله هؤلاء هو أنّ جيجك أحد أهم الأسماء الفلسفيّة خلال ربع القرن الأخير، وأنّ التحليل السياسيّ المباشر هو الحقل الذي يبدو فيه جيجك في أسوأ أحواله، مقارنةً بكونه أهم فيلسوف هيغليّ- ماركسيّ- لاكانيّ معاصر تشعّبت اهتماماته على نحو مدهش انطلاقاً من الفلسفة المعقّدة وصولاً إلى ثقافة البوب والسينما. ولذا، ليس من المستغرب وجود مثل هذا التنميط عن جيجك، بخاصة أنّ حصيلة الترجمات العربيّة لم تتجاوز 4 كتب فقط لم تكن ـــ على أهميّتها ـــ المدخل الصحيح إلى عالمه الفلسفيّ والفكريّ.
سيقع القارئ الذي يجهل جيجك في حيرة شديدة بشأن البداية المناسبة لمحاولة قراءة وفهم أعماله الغزيرة، ولذا يبدو بأنّ كتابه «نكات جيجك: هل سمعتَ تلك المتعلّقة بهيغل والنّفي؟» (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT ــ 2014) هو البداية الأنسب، إذ إنّ الكتاب يجمع أهم النكات التي أدرجها جيجك في كتبه طوال ربع قرن وكانت إحدى أهمّ الوسائل التي يستند إليها في تقديم وشرح ونقد الأطروحات والمحاجّات الفلسفيّة المكرّسة والسائدة عبر التحليل النفسيّ وخلفيّة هيغليّة- ماركسيّة متينة. تشير المقدّمة إلى أنّ أهميّة النكتة تكمن في كونها تعبّر عن قدرة الخلق المتفرّدة للغة في كونها منطوقة ومرويّة، وفي كون النكتة «جمعيّة، مجهولة، لا مؤلّف لها، ومباغِتةً تنبع من العدم». وجيجك، كما يشير القسم الأخير الذي كتبه المطرب والكاتب موموس، خبير في دلالات النكت والضحك كـ «عامل ثوريّ»، ولذا تبدو أفكاره الموغلة في السخرية هي المعبّر الأفضل عن «خِفّة العمق».

الطبقات عنصر شديد الأهميّة في هذه النكات

ما سيلاحظه القارئ هو أنّ كثيراً من النكات في الكتاب تتكرّر بتنويعات مختلفة (كما تتكرّر أطروحات جيجك بصيغ مختلفة في كتبه الأخرى) لتتلاءم مع الموضوع الذي يكون بصدد طرحه ونقده. تكاد هذه النكات تشمل جميع المسائل الكبيرة التي شغلت المفكّرين في القرن الماضي: العنصريّة، الهويّة، الدكتاتوريّة، الرأسماليّة، الديمقراطيّة، الإرهاب، الماركسيّة، الاشتراكيّة، التنميطات، العقائد الدينيّة، التطرّف، التوتّرات الطبقيّة، الجنس، والغرائز البشريّة تحت مجهر التحليل النفسيّ. وهنا، يشير جيجك في سؤال عابر: هل يمكن أن تؤدّي النكتة غرضها إنْ كانت سخريةً «راقيةً» محضة، أم أنّها تحتاج بالضرورة إلى مضمون مرتبط بمواضيع «قذرة» كالجنس والعنف؟ يترك جيجك السؤال معلّقاً من دون إجابة، ولكنّه يتابع سرد نكاته بحريّة كاملة من دون قيود، وكأنّه يومئ إلى أنّ الإجابة الثانية هي الأدقّ والأفضل كي تكتمل دلالات النكتة وتأويلاتها.
السياسة، بتجلّياتها المختلفة، حاضرة بكثافة في معظم النكات، حتى التي تبدو «نقيّة» وخالية من السياسة بمعناها المباشر. ما الذي يمكن أن نستنتجه من السؤال الاستنكاريّ للزوجة التي يكتشف الزوج خيانتها حين يعود مبكّراً من العمل «أنا سألتك أولاً عن سبب قدومك مبكّراً، لمَ غيّرت الموضوع؟» غير صلف السياسات الغربيّة إزاء الانتقادات المحقّة تجاهها؟ وما الدلالات غير السياسيّة التي يمكن استنتاجها من النكتة الشهيرة عن الرجل الذي يبحث عن مفتاحه الضائع تحت ضوء الشارع مع أنّه أضاعه في العتمة، شيئاً آخر بخلاف الضحيّة الجاهزة التي لا بدّ من تسليط الضوء عليها مسبقاً ومباشرة وإلصاق أيّة تهمة بها، مع تجاهل جميع المشكلات الملحّة الأخرى؟ أما النكتة اللاكانيّة الشهيرة عن المريض النفسيّ الذي يظنّ نفسه حبّة قمح ويتساءل، بعد شفائه، في ما إذا كانت الدجاجة تعلم بأنّه ليس حبّة قمح، فيؤكّد جيجك، باستعارات ماركسيّة عن السّلع، أنّ الدلالة الأهم هي ليست مجرّد إقناع الذات، بل إقناع السلع-الدجاج: لا أن نغيّر طريقة تعاملنا مع السّلع، بل أنّ نغيّر الطريقة التي تتعامل فيها السلّع بذاتها في ما بينها.
الطبقات عنصر آخر شديد الأهميّة في هذه النكات، حيث نجد الأثرياء وقد هيمنوا حتّى على حقّ الفقراء في الشّكوى أو التذمّر، إذ كيف يجرؤ اليهوديّ الفقير، في إحدى النكات، على القول إنّه «لا شيء» أمام الرب، بعد أن نطق الثريّ والحاخام بعبارة التذلّل ذاتها؟ أو عندما يأمر الثريّ خادمه بطرد المتسوّل الواقف على بابه لأنّ السيّد يتألم عند رؤية المعاناة. ثمة دلالات سياسيّة لا تخفى في النكتة الثانية حين يكون إنهاء المعاناة عبر محو من يعاني هو الوسيلة الأسهل والأقل كلفةً. وبالطبع، لا يمكن لأيّ كتاب جيجكيّ أن يخلو من النقد المباشر للدكتاتوريّة حيث يروي النكتة اللاكانيّة «لا يمكن أن تتأخّر خطيبتي عن الموعد، إذ إنّها لن تعود خطيبتي لو تأخرت» بتنويعات مختلفة أشدّها قسوةً وذكاءً حين يشير جيجك إلى أنّ «الشعب يناصر الحزب دائماً لأنّ أي شخص معارض للحزب سيُقصي نفسه مباشرةً من كونه أحد أفراد الشعب»، أو حين يؤكّد الطاغية أنه لم يُخطئ يوماً في اتّباع القواعد لأنّ عمله يتلخّص أساساً في فرض القواعد.
يضم «نكات جيجك» نكاتاً وشروحاً لا يمكن تلخيصها، بخاصة تلك المتعلقة بالثالوث الهيغليّ، أو صورة المرأة في الكتب المقدّسة، أو التماهي الزائف، أو مفهوم «التحديقة» كموضوع نفسيّ. مع انتهائه من القراءة سيكتشف القارئ الذي لا يعرف جيجك البوابة الصحيحة لدخول العوالم الجيجكيّة المدهشة، أما القارئ المتابع فسيكون أمام طريقٍ مختلفة إلى عقل جيجك متباينة بدرجةٍ ما عن كلّ ما قرأه سابقاً له، بالرغم من أنّ النكات (والأفكار) قد تبدو للوهلة الأولى مكرورة باهتة جامدة.