الجزائر | «الحلزون العنيد» عنوان روايته الأشهر، يطابق أيضاً مسيرته الطويلة مع الكتابة والنضال. يعتبره النقاد روائياً استثنائياً بكتاباته الصارخة والمثيرة للجدل، لكن أيضاً لأنه من القلائل الذين يكتبون في أكثر من مجال إبداعي وبتماس لغوي فريد. هو من أولئك الذين يكتبون بالعربية والفرنسي، في بلد ينقسم كتابه بين «الفرنكوفونيين» و«المُعربيين»، وثمة حروب ضروس تجري على تلك المساحة المفترضة بين ثقافتين وطرحين أيديولوجيين على طرفي نقيض.
رشيد بوجدرة (1941 ) الذي أمضى طفولته في قسنطينة (عرين الكتاب الكبار)، كان مقدراً أن يتفتّح وعيه باكراً: انطلقت الثورة ضد الاستعمار الفرنسي وهو لما يبلغ الـ 13، ليجد نفسه أمام هذا التيار الوطني الجارف الذي أعاد تعريف الأشياء... هو الطفل المأخوذ برواية «نجمة» لكاتب ياسين (1929-1989). «كنت على سطح بيتي في قسنطينة، أفكر أن أكون مثله، بل أحسن منه، لمَ لا؟» يقول مستعيداً علاقته بـ «نجمة». هذه العبارة تفسر علاقته بالكثير من المبدعين السابقين واللاحقين في مسيرة الأدب الجزائري. إذ اتسمت بالحدة، وبمفاهيم «قتل الأب» في الأدب. بدأ رحلته بمجموعة شعرية حملت عنوان «لنغلق أبواب الحلم» (1965)، قبل أن يعود إلى مقارعة ياسين في الرواية بإصداره الأول «التطليق» (1969)، ثم «ألف عام من الحنين» (1979). إلا أن المفترق في تجربة بوجدرة الذي ظل يكتب باللغة الفرنسية كأسلافه كاتب ياسين، ومولود فرعون، ومحمد ديب ومولود معمري، هو تحوله للكتابة بالعربية، عندما أصدر «التفكك» في الثمانينيات. رواية أثارت الجدل، سيما لدى الروائيين المعربيين كالطاهر وطار وغيره ممن اعتبروا ولوجه إلى مساحتهم تهديداً لتلك الثنائية المتقابلة. معارك بوجدرة/ وطار وصلت إلى حد الاتهام بالسرقات الأدبية، مما جعل التواصل بين أهم روائيين في الجزائر ضرباً من العبث. معارك بوجدرة لم تتوقف هنا، بل ظل يفتح الجبهات تجاه آخرين مثل واسيني الأعرج، وياسمينة خضرا، وبوعلام صنصال، وآسيا جبار، وأخيراً كمال داود. معظم تلك الخصومات كانت ناتجة من الاختلاف الأيديولوجي أكثر منها الـ «الغيرة الأدبية». فـ «الحلزون العنيد» لا يمانع وصفه بـ «الشيوعي الأخير»، بل يعتبر أنّ الكاتب الذي لا يرافع لـ «العدالة الاجتماعية وحقوق المسحوقين، مجرد راص للكلمات». في جعبته حوالى 40 عملاً في الرواية، والسيناريو، والمسرح، والفكر والسياسة، آخرها «ربيع» (Grasset 2014 ــ وترجمت إلى العربية بعنوان «صقيع الربيع» عن «دار البرزخ» في الجزائر 2015) التي رثى فيها حال المنطقة بعد «الربيع العربي». حوارنا معه اليوم يأتي في مناسبة تكريمه للمرة الأولى في الجزائر.

■عشت مسيرة الكتابة خلال نصف قرن شهد الكثير من التحولات في العالم، وأضحى كثيرون يتحدثون عن أنماط حديثة قيل إنّها تنتصر للمتغيرات الفنية أكثر من المحددات الأيديولوجية، هل يتعايش الروائي رشيد بوجدرة مع هذه التحولات؟
أستغرب كثيراً هذا الطرح، كأن يخرج علينا كاتب مغمور ليقول: أنا تجاوزت الهم الأيديولوجي واعتمد على القيم الفنية فقط! هذا أمر غريب، لأنّ هذا الكاتب لا يعرف معنى الأيديولوجيا. هي تعني مجموعة الأفكار المتعلقة برؤية الوجود. هل يمكن لكاتب أن يتجاوز ذلك؟! وفي ماذا يكتب أساساً إذا لم يكن معنياً بالأفكار الكبرى التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية، وحياة أفضل؟! الرواية ليست محض خيال، بل هي دفاع عن الإنسان. هل يمكن لكاتب أن يدافع في عمله الفني عن الاستغلال والظلم والحروب، هذا أمر يناقض فعل الكتابة الواعية؟ هؤلاء في الأساس - بوعي أو من دونه - جزء من حملة دافعت في فترة سابقة عن الاستعمار الأوروبي، ولاحقاً عن أطروحات نهاية التاريخ. هي مقولات مغلوطة تدافع عن أيديولوجيا الاستغلال ليس إلا. أما من يكتب من أجل همٍّ كوني إنساني، فلا يمكن قولبته في تعريفات تحمل الكثير من الزيف كوصفه بـ «الكاتب الأيديولوجي». شخصياً، أعتبر نفسي من المرافعين عن العدالة الاجتماعية في كتاباتي ومواقفي السياسية وخياراتي الثقافية والفكرية كافةً. لا أخفي ذلك، لكني لا أكتب انطلاقاً من «موقف سياسي أو حزبي»، بل من الهمّ الأعم والأكبر الذي يتعلق بالإنسان والحرية. لا أفرض وصاية على القارئ، كما يفعل الذين يدعون التحرر من الأيديولوجيا، بينما يغيّبون في كتاباتهم هذه الأسئلة الكبرى ويدافعون بشكل أو آخر عن أيديولوجيا المال والقوة! مَن يقرأ رواياتي، يعرف جيداً أنّ شخوصي متحررون من هذه العقدة.

■ يبدو أن الرواية تحولت إلى «ديوان العرب» بعدما كان الشعر يوصف سابقاً بـ «ديوان العرب». كيف تُقيم التجارب الروائية العربية، في زمن يوصف بـ «زمن الانفجار الروائي»؟ هل هي قفزة كمية فقط أم أنّ هناك تطوراً نوعياً واكب المسيرة؟
حتماً التطور الكمي في كتابة الرواية، يقود إلى فرز نوعي، ونضوج في التجارب. أنا أقرأ لكل الأجيال الروائية إن صحت التسمية، وأُلاحظ هذا الاختلاف في الأدوات والأفكار. عندما بدأت الكتابة الروائية، لم يكن أمامي الكثير من التجارب. كان هناك في الجزائر محمد ديب، مولود فرعون، مولود معمري، وكاتب ياسين وجميعهم يكتبون بالفرنسية، ولم أتأثر إلا بكاتب ياسين وروايته «نجمة». كانت رواية مختلفة بينما الآخرون كانوا تقليديين بالنسبة إليّ. اليوم، لدينا أجيال من الكُتاب، الجيل الذي تلانا مثل واسيني الأعرج الذي بدأ يكتب بطريقة مختلفة منذ أكثر من عشر سنوات، وأمين الزاوي وحميدة العياشي، ثم أتى جيل آخر من الشباب، مثل سارة حيدر التي تكتب بطريقة مميزة وتطرح أسئلة وإشكالات عميقة، وتبدو لي أنّ تجربتها مرشحة لنضوج أكبر إذا اشتغلت على شخوصها وعوالمها، وكذلك على عمق التجارب الإنسانية. لذلك أقول إنّ لدينا أجيالاً روائية واعدة في الجزائر، وهنا لا أتحدث عن الروائيين الذين يعيشون في الخارج ويكتبون بالفرنسية كبوعلام صنصال وياسمينة خضرا والراحلة آسيا جبار.

■ لماذا استثنيت من يعيشون في الخارج ويكتبون بالفرنسية من القائمة؟ علماً أنّك عشت فترة في الخارج وتكتب بالفرنسية أيضاً، بالإضافة إلى العربية؟ هل هم مختلفون في هواجسهم الكتابية أو الحياتية برأيك؟
لا، استثناؤهم هنا لا يعني إقصاء، بل هي عملية فرز للمنتوج. ليست لديّ مشكلة في أن يعيش الكاتب أينما أراد، ويكتب بأي لغة أراد. هذه خيارات، لكن لديّ مشكلة مع بعض الكتاب الذين يعيشون عقدة حقيقية مع مناخهم الجزائري، هم يعيشون في فرنسا، ويكتبون كفرنسيين أو مستشرقين. آسيا جبار لم تعش في الجزائر، حتى إنّها لم تزر الجزائر إلا مرة واحدة لحضور تشييع والدها. صنصال يكتب كما لو كان فرنسياً لا تسكنه الجزائر وأحياناً هؤلاء يكتبون انتقاماً من أوطانهم الأصل. لذلك أضع هؤلاء في خانة مختلفة لا أقصيهم ولكن لا أضعهم مع الآخرين.

■ ألا ترى أنّ هذا حكم قاس، لا سيما أنّ من ذكرت معظم رواياتهم تدور في المناخ الجزائري ولم يتنصلوا من هويتهم وخلفيتهم الجزائرية والعربية ولو كتبوا بالفرنسية؟
يفعلون ذلك لجهة انعدام عوالم أخرى يكتبون عنها وحولها. لن يتقبلهم أحد، إذا كتبوا عن العوالم الفرنسية مثلاً. لذلك، هم محتفى بهم ليكتبوا عن الجزائر بتلك الطريقة الاستشراقية أو الاستعلائية. وهذا ليس له علاقة باللغة، فأنا كتبت بالفرنسية، وكاتب ياسين، ومولود فرعون، ومالك حداد، ومحمد ديب وغيرهم كتبوا بالفرنسية من دون أي عقدة!

■ لكن حتى الذين يعيشون في الجزائر ويكتبون بالفرنسية، تلقوا منك نقداً لاذعاً، وبدا موقفك من أزمة رواية كمال داود «ميرسو... تحقيق مضاد» (انتقلت إلى العربية بعنوان «معارضة الغريب»، دار الجديد، 2015) غريباً، لجهة أنّه تماهى مع طرح الإسلاميين. ففي الوقت الذي توقع الجميع أن تصطف في خندق الدفاع عن داود، كنت من مهاجميه، كيف تفسّر ذلك؟
لا لا، لم يكن تماهياً مع الإسلاميين. موقفي لا يخضع لحسابات من يقف مع أو ضد من. لديّ خصومة معروفة مع التيار الإسلاموي الوهابي في السياسة والفكر والأيديولوجيا، لا يمكن أن أتخندق معه. لكن بالنسبة إلى رواية كمال داود، قلت رأيي بكل صراحة. أولاً، داود لا يملك إلا اللغة، والرواية ليست لغة مجردة وفضفاضة من دون عوالم وفكرة واشتغال فني وحبكة. ثانياً اختياره لألبير كامو وتمجيده وتضخيمه، وإعادة كتابة رواية كامو بطريقة أخرى، كانت لعبة واضحة لجلب أنظار الغرب نحوه، فهو مجرد ظاهرة عابرة وليس روائياً عميقاً. لذلك انتقدت الرواية بموضوعية، لكني ضد تكفيره أو إباحة دمه، أو جعل الرواية الخيالية دليلاً على إدانته في الواقع.

واسيني الأعرج لم يحدث شرخاً في مسيرة الرواية، وكمال داود ظاهرة عابرة، وبشير مفتي الأكثر نضجاً



■ اشتهرت أيضاً بتوجيه نقد لاذع لروائيين تمكنوا من تحقيق حضورهم الأدبي في المحيط العربي كالروائية الأكثر جماهيرية أحلام مستغانمي، والروائي واسيني الأعرج الذي نال عدداً من الجوائز الأدبية؟
أولاً، علينا أن نفرّق: هل نتحدث عن القيمة الأدبية أم عن الشهرة الإعلامية والدعائية، فكل منهما مختلف سواء في القيمة المضافة أو الوسائل المستخدمة لبلوغ الهدف. الإعلام الآن تحول إلى أداة لصنع نجوم من ورق، ومن يملك آلية التأثير سواء بالمال أو العلاقات، يمكنه أن يتبوّأ مكانة معينة لكنها مكانة زائفة برأيي. الروائية أحلام مستغانمي متوسطة المستوى في الكتابة وأسلوبها صحافي، كما أنها تستغل علاقات زوجها في النشر والتوزيع. أقول هذا رغم علاقتي الشخصية الطيبة معها ومع زوجها جورج الراسي. لكن وصف «الأكثر جماهيرية» أمر مثير للسخرية، فالأدب ليس مباراة كرة قدم تنال من خلفه الشهرة والجماهيرية. الأدب عمل نخبوي واع ينحت في العمق، وحتماً الجماهيرية والتهافت لنوع معين من الأدب، يؤكد أنّه من ذلك النوع الذي يدغدغ مشاعر العامة، لا النخب. الرواية «الجماهيرية» أو الأكثر رواجاً إن صحّت التسمية، تعبر عن مستوى المنتوج وبساطته بحيث لا يتطلب من القارئ جهداً كبيراً لاستيعابه أو لا يشرك القارئ في عملية التفكير، فهو كالوجبات الجاهزة رخيصة الكلفة قليلة الأثر، لكنها قد تكون خطيرة على الصحة العامة! أما في ما يتعلق بالصديق واسيني الأعرج، فقد قلت له أخيراً إنّني أُعجبت بتجاربه الأخيرة، التي اتضح أنّ فيها نوعاً من النضوج الفكري، لكنها لم تحدث شرخاً في العمل الأدبي في الجزائر. وعليه أن لا يبقى مفتوناً بحصد الجوائز الأدبية والكتابة وفق شروط تلك الجوائز حتى يحفر اسمه وسط الروائيين الذين تركوا بصمة واضحة في مسيرة الرواية الجزائرية والعربية.

■ نعود لدلالة الزمن والخمسين عاماً من الكتابة بمختلف أشكالها، وقد تم تكريمك في الجزائر للمرة الأولى على هامش الدورة الأخيرة من «مهرجان الفيلم العربي» في وهران؟
التكريم بالنسبة إليّ يعتبر اعترافاً بقيمة الكتابة. فقد سبق أن نلت جوائز دولية في عواصم غربية عدة، لكنها المرة الأولى التي أنال فيها تكريماً في بلادي الجزائر. كذلك، هذا التكريم يعد خاصاً ومميزاً لجهة أنّه تم من قبل الشباب الذين نظموا المهرجان، وهم جيل جديد، وأنا رجل يهتم جداً بالتواصل مع الأجيال الجديدة. بعد خمسين عاماً من المكابدة مع الكتابة، جميلٌ أن ألفت نظر هؤلاء الشباب الذين ولدوا بعد انشغالي بالكتابة الروائية، والكتابة للسينما والمسرح وكذلك للصحافة. لذلك، شعرت بالغبطة لأني ما زلت أنال تقديراً من جيل مختلف، له أدواته ورؤاه المختلفة عن جيل الرواد في الكتابة الجزائرية.

■ وماذا عن الذكرى بحدّ ذاتها؟ 50 عاماً من الكتابة، ماذا تعني لرشيد بوجدرة الذي وقف ذات يوم قبل خمسة عقود مضت في بيته في قسنطينة وفكر في أن يكون كاتباً؟ كيف تبدو لك المسيرة اليوم، بعد كل ما كابدته وأيضاً حققته في مضمار الكتابة الأدبية ومعاركها وربما خسائرها؟
في الواقع لست متيقناً بشكل كاف مما فعلته في هذه الفترة الطويلة. صحيح أنّني أصدرت أكثر من 40 كتاباً بين الرواية والفكر والمسرح والكتابة للسينما، لكنني في هذه اللحظة أبدو كالطفل الذي كان على سطح بيته في قسنطينة يفكر في الكتابة مأخوذاً برواية كاتب ياسين «نجمة»، ويريد أن يكون مثله أو أحسن منه. لا يزال هاجس الكتابة يسكنني، كتلك اللحظة الأولى تماماً، ولا أدري إن كنت قد نجحت في ما كتبت أم لا. الذي يملك اليقين في هذا الجانب، لا يمكنه أن يتقدم إلى الأمام. لذلك، عندما اتصل بي الصديق ابراهيم صديقي (محافظ المهرجان) عارضاً عليّ فكرة التكريم، قلت له: لماذا أُكرم، فأنا لم أعتزل الكتابة، ولم أعلن دخولي «المعاش». وهل أستحق فعلاً تكريماً على ما كتبت؟ هي أمور ملتبسة بالنسبة إليّ، وقد تكون مناقضة لبعض هواجسي وأفكاري! التكريم يوحي في درجة معينة أنّه يتعلق بمن شاخ ومن اكتملت تجربته! شخصياً، لا أرى ذلك في نفسي. ما زلت كما قلت في كلمة التكريم، «ذلك الطفل الصغير الذي يحلم بكتابة مختلفة». والمبدع الحقيقي هو الذي يحتفظ بطفولته رغم تقدم العمر، فالأيام والسنوات مجرد عداد، والكتابة لا تعترف بهذا العداد.

■ كيف تبدو هذه الطفولة التي يحتفظ بها بوجدرة في دواخله؟
هي طفولة معرفية وإبداعية. طفولة تلقائية لا أتقصد إبقاءها بل هي شيءٌ غريزي. طفولة تتعلق بالأسئلة الكبرى حول الوجود، والإنسان والعدالة، وغيرها من الأسئلة التي أُحاول مقاربتها بالكتابة. لذلك أقول لست متيقناً بشكل كاف من قدرتي على الإجابة على كل هذا الكم من الأسئلة الوجودية، ولذلك أيضاً تجدني دوماً على استعداد للكتابة.

■ لمن تقرأ من الروائيين الجدد أو من الجيل الذي تلاك، وكيف تقيّم التجارب القائمة؟
أقرأ لكل الأسماء الروائية في الجزائر بالذات، ولا أرى أنّ هناك طفرة نوعية تحقق تجربة جديدة ومختلفة عنا. هناك قفزات بين فترة وأخرى، لكنها لا تستمر طويلاً كأحميدة العياشي، وسارة حيدر وغيرهما. أقرأ أيضاً لمصطفى بن فوضيل، وبشير مفتي الذي اعتبره أكثرهم إلماماً وتحكماً بأدواته الفنية ومرجعيته الفلسفية، وقد لاحظت مستوى النضج العالي في رواياته الأخيرة.

لديّ مشكلة مع بعض الكتاب الذين يعيشون في فرنسا، ويكتبون عن بلدهم كالمستشرقين!

■ لا يمكن الحديث عن مسارات الرواية العربية من دون الوقوف عند «ظاهرة الجوائز» الأدبية التي أضحت تنتشر بشكل كبير في العالم العربي، خاصة في منطقة الخليج العربي. ما أثر هذه الجوائز برأيك في تطور التجارب الروائية؟
هذا موضوع شائك ومقلق. يفترض أن تكون الجوائز محفّزاً على الإبداع، لكن ها هي تتحوّل اليوم إلى «ظاهرة» مثيرة للقلق، لجهة ارتباطها بالأجندات السياسية للدول الراعية لها، ولجهة «تسليع» الأدب، بخاصة أنّ الجهات التي ترعاها، لا تملك رصيداً ذا مصداقية في مجالات النزاهة، أو حتى كفاءة حقيقية في تذوق هذا النمط الفني. الرواية فن مدني حديث، لا يمكن إيكال أمره لتلك الجهات التي ترصد ميزانيات باهظة في دول معينة، لتقييم الأدب، وهي حديثة التجربة في هذا الشأن. لكن في النهاية، هذا ليس خطأ تلك الدول، ولعل ذلك يسهم في إيقاظ الدول الأخرى الضالعة- بمؤسساتها العريقة وتجارب كتابها - في هذا النمط، لإعادة بعث جوائز ذات مصداقية عبر لجان تمتلك الكفاءة والنزاهة. الأمر الآخر أنّ المؤسسات الراعية لتلك الجوائز تسهم بشكل واضح في إفساد المترجم الأجنبي بما تقدمه من مبالغ كبيرة في سبيل ترجمة ونشر الروايات الفائزة. لذلك، فالمؤسسات الأجنبية التي كانت تنتظر رواياتنا بفارغ الصبر، لترجمتها ونشرها بعد تقديم الحقوق الأدبية والمادية الكاملة للكاتب، تحولت الآن بفضل المال الخليجي المتدفق نحوها إلى مؤسسات تحصل على آلاف الدولارات من أجل ترجمة رواية عربية! والأنكى أنّ «الكتّاب» أصبحوا يضعون أمامهم «دفتر شروط الجوائز» قبل الشروع في أي كتابة روائية. أعرف روائيين يمكن تسميتهم بـ «صائدي الجوائز الخليجية» ليس لجهة جودة أعمالهم، بل لانصياعها التام لدفتر الشروط المسبق! مشكلتي مع عموم هؤلاء أنّني لا أعترف أساساً بالهيئات المنظمة لهذه الجوائز وكل ما ينتج عنها، ولا أنتبه لشروطها، ولا أعتقد أنني بحاجة إلى شهادتها بعد نصف قرن من الكتابة، ربما غيري يهتم بها إما للحصول على الاعتراف أو لجني المال.

■ ماذا عن الجائزة الدولية الأهم «نوبل»؟ لماذا لم يظفر أي أديب عربي منذ نجيب محفوظ بهذه الجائزة، رغم ترشح بعض الأسماء لأكثر من مرة؟
- لا أود الحديث عن هذا الأمر لأنه جلب لي الكثير من المتاعب منذ نهاية الثمانينيات عندما كتبت حوله.

■ ألا يطمح رشيد بوجدرة إلى نيل «نوبل» بعد مسيرة الخمسة عقود؟
لا أطمح بالطبع (يضحك)، لأنني أعرف مواصفات هذه الجائزة التي لا تخضع للشروط الأدبية فقط، بل هناك مقاربات سياسية معروفة. وهنا لا أريد أن أشكك في مكانة من حازوها، كما هي الحال بالنسبة إلى نجيب محفوظ، فهو لا شك روائي فذ وعميق، لكن لم يكن ذلك الشرط الأوحد لنيله الجائزة في اعتقادي. ولو أنه رفض اتفاقيات كامب ديفيد ربما، لما أسندت الجائزة له. حتى صديقي الشاعر السوري أدونيس يتم إيهامه في كل مرة بإمكانية الفوز من خلال تسريب اسمه في وسائل الإعلام، ثم تمنح الجائزة لاسم آخر. تلك التسريبات والإيهام مقصودان لأنهما يضعان العرب ضمن قائمة التقرب، ويوحيان للعامة بأنّ هناك دوماً مرشحاً عربياً وأنّ الأدب العربي غير مستبعد، وهذه حيلة عفى عليها الزمن وعلى الأدباء أن يفيقوا من أحلام «نوبل».

■ «ربيع» آخر رواياتك الصادرة عام 2014، أثارت أسئلة كثيرة حول موقفك السياسي، مما يسمى بـ «ثورات الربيع العربي». ألا تراها صادمة، لا سيما أنّ هناك من يربط بين طرحها وأطروحات بعض الأنظمة العربية المستبدة؟
في الواقع، لم أتابع مثل هذه الأسئلة حول روايتي، ولا أعرف من طرحها، ولا أهتم كثيراً بالآراء التي تُبنى عن الأعمال الإبداعية انطلاقاً من تفسيرات وتأويلات الطرح السياسي القائم. السؤال المتوقع بالنسبة إلي، هو: هل ثمة تناقض بين أفكار وأجواء تلك الرواية ومواقف وتوجهات بوجدرة المعروفة التي تنطلق من الانتصار للحرية، وللاستقلالية الوطنية، ومناهضة الاستعمار والوصاية بكل أشكالها؟ بالرغم من استقلاليتها الفنية عن المبدع والتزامها بالخط الفني، فهذه الرواية متطابقة تماماً مع حقيقة بوجدرة وأفكاره التي ذكرتها آنفاً. كما أن الرواية الصادرة عام 2014 في أعقاب أحداث «الخريف الدموي»، قد تنبأت مسبقاً بما آلت إليه الأوضاع اليوم. ربما سؤالك كان سيبدو أكثر منطقيةً لو طرح قبل أربع سنوات. الآن، لم يعد أحد يشك أن كل ما حدث في هذه المنطقة لم يكن بريئاً أو تلقائياً من قبل الشعوب. حتى لو اتفقنا على توافر كل الشروط الموضوعية لقيام ثورات حقيقية، إلا أن مسار الأحداث أكد أنّ المنطقة ككل قد تعرضت لمؤامرة كبرى. ربما سنظل ندفع تكاليفها لأجيال قادمة.