رسالة «بلاد للنهب ــ نهب ألمانيا الممنهج منذ عام 1945» تتلخص في القول المنسوب إلى الكاتب والروائي الإنكليزي صمويل بتلر (1835 ـــ 1902): «الرب نفسه ليس بمقدوره تغيير الماضي، لكن المؤرخون بإمكانهم ذلك».عودة على بدء: قضية قبول نحو مليون لاجئ التي اتبعتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عام 2015 فجَّرت عواطف معارضة في ألمانية، خصوصاً أن القسم الأكبر من طالبي اللجوء ينتمون إلى منظومة حضارية مختلفة تماماً عن تلك السائدة في الغرب (مسلمون/ «عالم ثالث»). ألمان كثر رأوا في هذه الهجمة تهديداً لثقافتهم وحضارتهم الغربية وثرواتهم ونظامهم السياسي والاجتماعي. يصف الكاتب برونو باندولِت ألمانيا بأنها بلاد تتواجد فيها جنباً إلى جنب كل من «المثالية والسذاجة، وثقافة الشعور بالذنب والغطرسة، والفخر بالذات وكراهية الذات، والقوة والقابلية للجرح بسهولة».

أما الطبقة الحاكمة فيها، فتدعو إلى تطبيق حقوق الإنسان عالمياً، لكنها ترى أن كرامة الإنسان تتحقق من خلال بطاقة الائتمان و«ثقافة الترحيب». يشدّد الكاتب هنا على أن هدف السياسيين ليس خدمة البلاد وإنما السلطة، التي هي أخطر أنواع المخدرات وأشدها فتكاً، لأنها تسمح لفئة من الناس بالسيطرة على الشعب. هذا تلخيص مكثف لمحتوى المؤلف. أما التفاصيل، فتقسم إلى جزءين أولهما نهب الحلفاء ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ومحاولة القضاء على الألمان كأمة، كما صرح بذلك وينستون تشرتشل وفرانكلِين دي روزفلت. إذ ينقل عنهما قولهما إبان اجتماعهما في الدار البيضاء في المغرب إنّ هدفهما ليس الانتصار على ألمانيا وإنما القضاء عليها، وفق «خطة اليهودي هنري مورغنتاو هيرشهورن، ابن هنري مورغنتاو الأب قنصل واشنطن لدى الدولة العثمانية»، التي تطالب بتحويل ألمانيا إلى دولة زراعية. أي أن هدف الحلفاء بعد الحرب لم يكن مساعدة الألمان في التغلب على الماضي وإنما القضاء على مستقبلها. أما الجزء الثاني، فيتناول بالسرد والتحليل استمرار عملية النهب بعد عام 1990 رغم توقيع بروتوكول القوى 4+2 الذي أعاد إلى الدولة الألمانية سيادتها الكاملة (على الورق فقط، دوماً وفق الكاتب).

يتساءل عن سبب عدم شعور الأميركيين بالذنب تجاه جرائمهم في هيروشيما وناغازاكي

هذا كله يعني ضرورة إعادة النظر في التاريخ الرسمي لألمانيا منذ عام 1945، وألمانيا الغربية تحديداً، إذ رفض الكاتب الانصياع لما يسمى «الاستقامة السياسية/ الصواب السياسي»، بمعنى التأريخ الذي يأخذ في الاعتبار مشاعر الآخرين، رغم تقديمه بعض الآراء الإشكالية.
يسرد الكاتب باختصار أوضاع ألمانيا الاقتصادية والمالية والتصنيعية قبل الحرب وتفوقها على بقية الدول الأوروبية. ينتقل بعدها إلى سياسات معسكر «الحلفاء» تجاه ألمانيا بعد الحرب، ومن ضمن ذلك ما يسمى «مشروع مارشال». رغم بعض التفاصيل المهمة التي يوردها، إلا أنّ بعض آرائه تفتقد ــ في ظننا ـــ إلى توثيق. من ضمن الأمور التي ينفي الكاتب صحتها أنّ ألمانيا كانت محطمة صناعياً عند انتهاء الحرب. وزير التسليح في الرايخ الثالث عمد إلى نقل مصانع المعدات الثقيلة من أمكانها حيث بقي معظمها يعمل عند انتهاء الحرب، يضاف إلى ذلك توافر العمالة الماهرة والخبرات العلمية، التي تم نهبها بعد الحرب. بذلك، فإنه ينفي صحة الادعاء بأن «مشروع مارشال» قاد إلى تحديث ألمانيا ومساعدتها في الخروج من الحرب، لافتاً إلى أنّ كافة دول أوروبا الغربية حصلت على حصة من «المشروع»، لكنها لم تتمكن من تحقيق مستوى نمو يقارب مثيله في ألمانيا.
في الوقت نفسه، يرفض الكاتب «ثقافة الشعور بالذنب» وتحميل الأجيال الشابة التي ولدت بعد الحرب مسؤولية جرائم النظام النازي، ويتساءل عن أسباب عدم شعور شعوب الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا، على سبيل المثال، بالذنب تجاه الجرائم التي ارتكبها حكامهم في هيروشيما وناغازاكي وفيتنام، وفي بقية أنحاء العالم، عبر قرون!
ينتقل الكاتب بعدها إلى عرض عمليات النهب التي مارسها الحلفاء سواء عبر نقل مصانع بأكملها إضافة إلى اختطاف العلماء وسرقة براءات الاختراع الألمانية والماركات المسجلة عالمياً، وإجبارها على دفع مليارات الدولارات إلى الدول المنتصرة ومنها إجبارها على التعويض عن اليهود الذين قتلتهم رومانيا التي كانت دولة مستقلة ذات سيادة.
يضاف إلى ذلك كله دفع الجيل الجديد من الألمان مئات الملايين لـ «المنظمة اليهودية العالمية»، لا لضحايا معسكرات الاعتقال أو أقربائهم، إضافة إلى مئة وعشرين مليار مارك، دفعت لكيان العدو الصهيوني، تحت حجج جديدة مختلقة، محتجاً بأن معظم الألمان ولدوا بعد الحرب ولا يحق لأحد المطالبة بتعويضات عن قتلى اليهود... لكن الدفع لا يزال مستمراً.
يورد الكتاب حقيقة أنّ رئيس «المنظمة اليهودية العالمية» ناحوم غولدمان آنذاك أملى شروطه على المستشار الألماني كونراد أديناور وحصل على 80 مليار مارك كتعويضات، وهو رقم يساوي 1400% ما كان يحلم به. من دون تلك «التعويضات» ما كان لكيان العدو الوصول إلى وضعه الاقتصادي الحالي، فسفنه ألمانية ومحطات توليد الكهرباء فيه ألمانية وقسم كبير من مصانعه ألمانية، وهذا غيض من فيض، إذ فاقت قيمة تلك «التعويضات» أحياناً ما دفعه أشكناز العالم للكيان الصهيوني بقيمة ثلاثة أضعاف. هذا كله ــ دوماً وفق الكاتب ـــ دفع حاييم لاندو إلى القول لصمويل دايان باليديشية A glik hat uns getrofen (بمعنى «لقد حالفنا الحظ») بموت ستة ملايين يهودي، إذ مكّنهم ذلك من الحصول على بعض الأموال!
كلمة أخرى عن مهازل عمليات «التعويضات» التي يذكرها الكاتب وفق «اتفاق لوكسمبورغ» في 10 أيلول (سبتمبر) 1952، وهي مقياس لعمليات النهب التي مارسها الحلفاء تجاه ألمانيا المهزومة: هربرت ماركوزه وغيره نالوا تعويضات تصل قيمتها إلى ستة أرقام، لأنهم كانوا، في ظنهم، سيحصلون على منصب الأستذة لولا مجيء الحكم النازي.
نكتفي بهذا ونختتم عرضنا بالقول إن ّما يجري في ألمانيا من تغيرات فكرية نتاج طبيعي للمهانة التي تعرضت لها ألمانيا بعد خسارتها الحرب، تماماً كما حدث في أعقاب الحرب الأهلية الأوروبية الأولى (العالمية الأولى). تضاف إلى ذلك مناهج تعليمية عن «العالم الثالث» بالية وأحادية الجانب.