كافكا الروسي أخيراً بلغة الضاد: أندريه بلاتونوف... صوت الملعونين في الأرض ينتظر أبطال أندريه بلاتونوف (1899 ــ 1951) أن يتحقق شيء ما. شيء جارف بحجم معجزات تقلب كل شيء بلحظة واحدة. ينتظرون بصبر جبّار وأمل شيوعي يتآكل مع حركة أجسادهم، الآلية التي لا تكاد تحدث ولو جلبة صغيرة في فراغ حيواتهم.

وصل بلاتونوف متأخراً في الثمانينيات بسبب الحظر الذي فرضه الحكم السوفياتي على كتاباته، فلم يُرفق اسم الروائي الروسي بالكتاب السوفيات مثل ميخائيل شولوخوف وبولغاكوف إلا نادراً. اكتسحت أعمال هؤلاء العربية باكراً، لكن اسم بلاتونوف احتجب طويلاً لا عن لغة الضاد فحسب، بل عن كل اللغات، حتى عن الروسية نفسها. ولا يزال العالم يكتشف بلاتونوف ونتاجه الأدبي المتنوّع بين الشعر والرواية والقصص القصيرة والمسرح ومقالاته النقدية منذ عقدين. وأخيراً، أصدرت «دار سؤال» في بيروت ثلاث روايات له بترجمة العراقي خيري الضامن هي: «الحفرة» (1930)، و«الأشباح» (1935)، و«بحر الصبا» (1934).
معظم سيَر بلاتونوف لا تستثني تفصيلاً واحداً من ولائه للشيوعية ومبادئ الاشتراكية، أوّلها نصوصه وقصصه التي بدأ يكتبها وهو جندي في «الجيش الأحمر» في بعض المجلات والجرائد البلشفية، ثم التحاقه بالحزب الشيوعي، وانخراطه في مشاريع بناء كمهندس وعامل. انتماء يلوح في كتابته قبل ممارساته اليومية، ويمنح تكسير بلاتونوف لمقاييس «الواقعية الاشتراكية»، مذاقاً غرائبياً ينعكس مباشرة في رواياته. في عصر سوفياتي، وداخل نظمه الاقتصادية والاجتماعية، شيّد بلاتونوف بنيته الأدبية المتفرّدة. من الخارج، قد يبدو هذا مألوفاً، وشديد الألفة لرواية كتبت في عصر ستالين. لكن بلاتونوف لا يستسلم لهذه الواقعية بحذافيرها. يقتنص، بمهارة سردية، لحظات فالتة من المدن السوفياتية الفاضلة وأقدارها المشوّهة. تتلاشى الديكورات الواقعية وتسقط تماماً، إذ تكثف من ضبابيتها الحوارات العبثية، التي كأنما تدور على دواليب الفئران داخل القفص.
في روايته «الحفرة» التي تجري في فترة التأميم الزراعي في روسيا، يقدّم نماذج مختلفة من الشخوص. رغم تفاوتها بين المناضل الشيوعي والقادة والمهندسين والعمال المتحمسين والأطفال والمعوّقين، فإنها تذكرنا بأبطال بيكيت الذين يتكلمون بصوت واحد عاجز أمام المصير البشري. إنها رواية جماعية، مع ذلك يحتفظ بلاتونوف بأماكن داخلية. يسهب في تظهير هواجس فوشيف وكوزلوف، ولحظات انكسار أشدّهم حماسة مثل سافرونوف وشيكلين وانزلاقاتهم الفكرية. تبدأ الرواية بطرد فوشيف من وظيفته بسبب شروده وتفكيره الدائمين. تملك الشخوص فائضاً من القلق على مصائرها. وفي ذلك دعوة من الكاتب للبحث عنها في الحب والشفقة، بعيداً عما تقدمه ضربات المعاول، وصوت الحديد. يتذمّر كوزلوف وهو يرمي جسده المتهالك على الأرض: «يقولون لي انتظر حتى تموت الرأسمالية العجوز، وقد ماتت، ومع ذلك لا أزال أعيش وحيداً تحت البطانية». لم يستطع الروائي الروسي الذي عمل في «لجنة الإصلاح الزراعي» في العشرينيات، أن يغفل عن الأثمان الثقيلة التي تستهلك نفسية العمال وطاقتهم الجسدية، بينما يستمتع بعض القادة داخل منازلهم. رأى ذلك عن قرب خلال جولاته في أرياف الجنوب الروسي. وهذا ما دفعه إلى التشكيك حتى بقدرة الناس على تحمل الوصول إلى فترة تتحقق فيها الأحلام. فالشعارات الكبيرة والمبالغة التي يعلكها الأبطال، تصبح كاريكاتورية لفرط تكرارها، خصوصاً حين تأتي على ألسنة أطفال يتلمسون خطر الكولاك قبل أي شي في الحياة. ولعلّ الزج بهذه الشعارات الأيديولوجية في كثير من الحوارات، يضاعف من هجانة الواقع السوفياتي بسخرية سوداء، تأتي غالباً بشكل تكثيف صوري للحفرة العملاقة التي ستحمل مبنى كل البروليتاريا المحلية.
التكرار والرتابة اليومية للعمال يخدمان الفكرة الفلسفية للعود اليومي ولا جدواه، للإفاقة في الصباح، وتكدّس الأجساد آخر النهار من التعب. ثم الاستفاقة، ومواصلة أعمال الحفر ثم النوم. حركة مجرّدة تقود السرد في الرواية، وتكسرها سوريالية مدهشة تصيب قلب الواقع كما حين تنطلي الحياة التعاونية الجماعية على الخيول أيضاً، فتخرج جماعة منها بهدوء إلى منخفض مليء بالماء كي تشرب باعتدال وتغتسل قبل أن تتقاسم العلف. لا ينكفئ بلاتونوف عن العبث بالمستقبل، كعنصر من عناصر الحلم السوفياتي. يخبئه جيداً عن عيون الأبطال الذين يؤجلون وجودهم ومتعهم الشخصية حتى بلوغه. يحرّفه ويجعله بشكل توابيت تصطف فوق الحفرة، كأنها مرآتها، أو بشكل قطعة ثمينة يدفنها العمال برفق مع جثة الطفلة ناستيا، قبل أن يلقي عليها الدب ميشكا تحية الوداع. توثّق أعمال بلاتونوف لبدايات الاتحاد السوفياتي ومنشآته مثل الاستثمارات الزراعية الحكومية السوفياتية في «بحر الصبا»، والتأميم والتعاونيات، والسكك الحديدية في «تشفينغور» التي تظهر تنبهاً مبكراً لثغرات النظام، وتنبؤاً بسقوطه منذ مراحله الأولى. لكنها أعمال محفوفة بإحالات تاريخية وفلسفية وثقافية ونفسية عميقة تستوي ملامحها بوضوح في روايته «الأشباح» التي لم تنشر كاملة إلا في نهاية التسعينيات. تحمل الرواية عنوان «الجان» وهو اسم شعب في تركمانيا ينتمي إليه بطل الرواية نزار شاغاتيف، ويعني روح الفقراء الذين لا يملكون سواها. كتب بلاتونوف الرواية بعد زيارتين قام بهما إلى تركمانيا، وفيها يكشف عن رؤيته الشاملة والعميقة للإنسانية خارج حدود الأنظمة.
نظم غوركي الزيارة الأولى لمجموعة من الكتاب، لنشر عمل جماعي يحتفي بعشر سنوات من الحكم السوفياتي هناك. بلاتونوف كان من بينهم. لكن فيما كان هؤلاء «الكتاب الآخرون يستلقون في حماماتهم ويحتسون المشروبات الباردة»، فقد بلاتونوف التواصل معهم كلهم كما كتب في رسالة إلى زوجته، وانصرف إلى تدوين ما سنقرأه في الرواية، خصوصاً في رحلته الثانية بعد أشهر. تتبع «الأشباح» مسيرة شعوب آسيا الوسطى للالتحاق بالاشتراكية. لكن الرواية تتجاوز في محطات كثيرة هذا السرد التاريخي لتبدو كملحمة أبوكاليبتية تحاكي مأساة البشرية في بحثها المسدود عن السعادة الكبرى. إنه زحف في الصحراء التركمانية، في رحلة يرتوي فيها الناس من دماء الطيور، ويأكلون بطون الجمال المبقورة والأعشاب الصحراوية للنجاة. يخضع بلاتونوف الروح البشرية لاختبارات لا معقولة، في أجواء أسطورية محلية يلبس فيها البشر والحيوانات وجهاً واحداً، ويتداخل فيها الموت والحياة، والجسد والروح.
تبدأ الأحداث حين يعود نزار شاغاتايف من روسيا بعد انتهاء تحصيله العلمي، بمهمة إنقاذ شعبه التائه في الصحراء قرب مصب أمو داريا، أي أن يبشره بالاشتراكية كنبي آخر، ويخلّصه من ماضيه. وفي هذا تشكيك ساخر من قدرة النظام السوفياتي على احتوائه لشعب الجان، رغم قلة عدده. يكتفي هؤلاء بالعيش على مكامن السعادة الصوفية في تلك البلاد، المتمثلة بالموسيقى وآلاتها وحلقات الرقص، وممارسة الحب، والتيه، ككل سكان الصحراء. غالباً، لن يكون هناك متسع لنهايات سعيدة ولا لمعجزات أبطال خارقين، أمام مصائر المهمشين والفقراء والمشردين التي يحرسها بلاتونوف بقلق دائم من الأب الأكبر.