لم يكن «تراشق الخفاء» (1998 ــــ «دار الفارس»، عمان) أوَّلَ مجموعةٍ شعريَّة لي؛ فقد سبقتها «امرأةٌ شديدة الكبرياء تهجو رجلاً»، و«ديوان الذاكرة الثانية»، و«لا قائل إلا المجنون»، و«حديث السوسن العاشق» وعددٌ لم أعد أذكره من المخطوطات التي لم تر النور، ولن تراها. جميعُ ما سبق كانت كتاباتٍ تملأها أحاسيس غير ناضجة، كُتبت عبر سني الأسر الزوجي، كمحاولة لكسر القيد والصعود إلى الشرفة العليا في بيت الحياة. ولكنها لم تكن. وليس «تراشق الخفاء» المطبوع سوى آخرِ حصاةٍ في كوم الحجارة الذي تركتُه في دروجي، خجلاً من ثأثأته وقلةِ مراسه بالهواء الطلق!
لم يكن من الممكن تجاوزُ البوحِ الملحاح، والمجازِ الطوفانيّ بغير المرور عبر فلاتر التجربة، هذه التي يجب أن لا تقلَّ عن زلزال. وهكذا كان. وكان عليَّ، فيما يبدو، أن أسبقَ «التراشق»، كتابةً ثمَّ نشراً، بمراجعةٍ جذريّةٍ ليقينيّاتي الشخصيّة، تلك التي آمنتُ بها بحكم التنشئة الصوفية في بيت أمي وأبي، أو مجاملةً للزوج الإخواني. فقد كنتُ أحسنت الظن بالإخوان المسلمين، فتلوَّثتُ ببعض أفكارهم ومفاهيمهم واهتممتُ بإعجابٍ بمصطفى محمود في كتابه «القرآن: محاولة لفهمٍ عصري» (1969 ـ «دار المعارف»، القاهرة) وكتبه الإيمانيّة، وسيد قطب في «في ظلال القرآن» (1968، «الشروق»، القاهرة)، وإن لم يدم ذلك غير سنواتٍ قليلة، ولكن وجودي في تماسٍ يوميٍّ مع فقه ابن تيمية متمثّلاً في احتكاكٍ ونزاعٍ لتثبيت سلطة الذكر، ولمحاولةٍ دائبةٍ لإثبات دونيّة النساء، كان كافياً لكي أستنفر بقيّة ما لديَّ من مقاومة لأعيد قراءةَ النُّصوص المقدَّسة، في ضوء الدراسات الإسلاميَّة التي انكببتُ عليها وحصلت على دبلومٍ عالٍ فيها، وفي ضوء عدد مهول من القراءات المعمَّقة في كتابات محمد عبده، وعلي عبد الرازق، والطاهر حداد، وحسين مروة، ومهدي عامل، وأدونيس، ونوال السعداوي، وطه حسين، وفؤاد زكريا، ومحمود أمين العالم، وزكي نجيب محمود، وصادق جلال العظم، وفؤاد زكريا، وأنور عبد الملك، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، وعلي حرب، وفاطمة المرنيسي وغيرِهم وغيرهم. وجميعُهم، بطبيعة الحال، على الشاطئ الآخر من الفكر. وكان أن توصَّلتُ إلى عدد من الخلاصات نشرتُ بعضها، فهاجَ لها الوسط الإخواني في الأردن وخارجه، مما دفع الشيخ علي الطنطاوي السوري اللاجئ في السعودية إلى أن يخصص لمقالةٍ لي حلقةً كاملةً من برنامجه الإذاعي لشتمي وتكفيري والتحريض عليّ (كان هذا عام 1981). وبينما كنتُ أدير معاركي مع الظلامية التكفيريّة في مدرسة النقل، كنتُ في الشِّعر أَقلِب صفحةَ الحِجاجِ العقليّ وأذهبُ إلى الوجدان في أعلى سماواته. وكان هذا مسوِّغاً تكفيرياً آخر ومبرِّراً للحكم الأخلاقيِّ على سيرتي الشخصيَّة من خلال كتابتي الإبداعيّة، فتناولتني خطبُ المساجد (وإحداها كانت مذاعةً على التلفزيون الأردني، والخطيب كان وزير الأوقاف آنذاك الشيخ ابراهيم زيد الكيلاني)، كما تناولتني بالسوء منشوراتٌ سريّة وُزِّعت في عمان وأقلامٌ متأسلمة وصفتني بالعمالة للغرب الكافر، وبالتصهين، وبالانحلال الأخلاقيّ والدعوة إليه.
كان الشعرُ لي ملاذاً آمناً من هذا الصخبِ المجتمعيّ، على ما في مقاربتِه من لوعاتٍ عظيمةٍ ينخلعُ لها القلبُ الذي كان يمشي في هواء الحريّة مشيَ رعناء. كنتُ بين أن أُخلصَ لمنبتي المحافظ في قيم الشعر والكتابة حيثُ افتُتِنتُ بمصطفى صادق الرافعي، وانحزت إليه في معاركه مع العقاد وطه حسين، وكذلك بمحمود محمد شاكر، ومعاركه مع طه حسين ولويس عوض، أو أن أذهبَ إلى خيانة هذا المَنبت ظاهراً وباطناً. وكان الخيارُ صعباً، لأنَّ ثقافةً طويلةَ المدى، بعيدةَ الغور تقفُ في العمقِ بيني وبين خياراتي الجديدة. وكان هذا مبعثَ قلقٍ شديد. وقد انعكسَ هذا القلق في خط سير مقالاتي في «الرأي» الأردنيّة، حيثُ سجَّلتُ تراجعاً أحياناً عن خيارِ الحداثة عندما كتبتُ مؤيِّدةً تعددَ الزوجات.. وكان ينبغي رصدُ الابتسامات العريضة التي ظهرت على وجوه الإخوان وهم يُثنونَ على «فصاحتي»، ويدعونني إلى أن يكون لي مجلسُ وعظٍ أَهدي فيه النساءَ إلى الدين الحقّ الذي تبلور في هذه المقالة التافهة! وكانوا قد حفيت ألسنتُهم وهم يحاولون إقناعي (الدكتور إ. ف.، والأستاذ ك. ش.، والدكتور م. إ.، والتاجر س. ز.) أن أكفَّ عن مقالاتي التي أهاجمُ فيها الحجابَ وأدافعُ فيها عن المرأةِ من منظورٍ إسلاميٍّ، لما في ذلك من حرجٍ للإكس (الزوج). كانوا يطلبونني إلى بيت الطاعةِ الفكريّ، حيثُ لا ينبغي لي أن أخرج عن الخط الفكريّ للزوج، فيكفي أنه «سمح» لي أن أنشر! لكني كنتُ عنيدةً أتحجَّجُ بالتعدّديّةِ وانفتاح النصِّ على تأويلاتٍ شتى. وقطعتُ شوطاً في فضح السلوك الإخواني في تحجيم النساء ورددتُ عليهم في مواقف عدّة، منها منعُ الاختلاط في وزاراتهم!
كان لا بدَّ أن تؤوبَ روحي، وسط كلِّ هذا، إلى هدير موسيقى الحضرةِ وأناشيد «إخواننا» مريدي أبي وصوته الشجيّ وهو يصدح بعيون الشعر الصوفيّ، لحسن الحكيم الحلبي: «ليلُ الظلامِ انجلى/ من بعد ما جُنّْ/ شربُ المُدامِ حلا/ من إبنة الدَّنّْ/ أنا الهوى مذهبي/ أخذتُه عن أبي/ والهتكُ من مشربي/ والعشقُ لي فنّْ»,
أو لعبد القادر الحمصي (جدّ الشاعر عبد القادر الحصني): «بكَ مُهِّدَ كوني تمهيدا/ فغدوتُ جميعي توحيدا/
إن قيلَ بفرقٍ أو جمعِ/ فأراكَ لساني مع سمعي/ وأراكَ عطائي مع منعي/ وأراكَ بِكُلّي مشهودا»، أو للشيخ رشيد سنان أو نصوح الجابري أو الشيخ محمد السرطاوي (جد الشاعر نزار السرطاوي)، أو الشيخ محمود أبو الشامات، قائم مقام الطريقة الشاذليّة في دمشق (جد حَسنا زوجة الشاعر طاهر رياض)، أو عبد القادر السرميني، أو قائم مقام حلب الشافع أبوريشة (شقيق جدي لأبي ووالد الشاعر عمر أبوريشة)، أو العالم الشيخ محمد الطقطاق (جدي لأمي)، أو مفتي البقاع الشيخ مصطفى أبوريشة (جد والدي لأبيه)، أو عبد الرحمن أبوريشة (والدي).. وجميعهم مريدو جديَّ الشيخ علي نور الدين اليشرطي أو ابنه الشيخ ابراهيم اليشرطي. وكانت الأناشيدُ تُنَّشَّد وتُعرَّفُ بمقاماتها: النهوند، أو العجم، أو الصَّبا، أو البياتي، أو الحجاز، أو الكرد، أو السيجا.
كانت روحي ومن قبلِها أذُني، تتشرَّبُ هذه الموسيقى العظيمةَ، وتدَّخرُ في حديقتها الداخليَّةِ ألحاناً ومجازاتٍ شقَّ عنها الحبُّ في أعلى مراتبِه صفاءً. ولكنَّ العرَضَ شاغبَ على الجوهر، واستطاع الحادثُ الفاني أن يُشرّدَني في طرقاته تجريباً وفضولاً، حتى وجدتُني لم أستطع تفاهماً مع محنة الوجود إلا بالإبداع. وكانت الكتابةُ خلاصاً لي حتى وأوراقها تتمزَّقُ بالعصابُ الذكوريّ المشحون بالخشونة والاستعلاء. وكانت «في الزنزانة» مجموعتي القصصيّة الوحيدة، أوَّلَ بيانٍ نِسويٍّ لي يصِفُ بالمخيالِ تمزُّقَ أوراقِ الأنثى بسلطة السجّان. وعلى ذلك، استقبلها النقدُ الأردنيُّ مناهضاً أطروحتها على أنها مكرَّرةٌ ومملّة.. أليست تدور حول المرأة؟ فم الجديدُ في ذلك؟ ولما كان ذلك سنة 1986، فلنا أن نعلم أن القضيَّة النِّسويَّة لم تكن قد بلغت الأردنَّ كشاغلٍ مجتمعيّ عريضٍ، وإن كنتُ قد بدأتُ طرحَها بخلفيّاتها الدينيّةِ في عمودي الأسبوعيّ في صحيفة «الرأي» الأردنيَّة منذ عام 1980.
ومع أني لم أَعِرْ أذناً لهذا النقد الذي استفزَّهُ موضوعُ المجموعة (المرأة) وكشفَ عوارَه، ومع ترحابٍ غير عاديّ في الأوساط النسائيّة المثقَّفة، والأوساط الأكاديمية التي منحتها جائزة الخريجين من كلية الآداب في الجامعة الأردنيّة، إلا أني لم أعد إلى القصة القصيرةِ إلا لماماً، وكأني قد حقَّقتُ فكَّ أسري الشَّخصيِّ بها! وانصرفتُ إلى الشعر أعملُ فيه تجريباً، محاولةً قدَّ قميصٍ خاصٍّ بي كنتُ أُلبسُه في كلِّ مرّةٍ ليوسفَ جديد. وهكذا اختلفَ النَّفَسُ في كل موجةٍ من موجات انفعالاتي التي كانت تصنعُ ديواناً، بحسبِ اختلافِ المُلهِم، والمنطقةِ التي كان يستحثُّها من وجداني. ولو كشفتُ الكودَ الخاصَّ بهؤلاء والمهنَ اللغويَّةَ التي وضعَتْهم في حياتي، فسيكون من السهل على ناقدٍ أو ناقدةٍ نبيهَيْن الالتفاتَ إلى معانيَ وذوائقَ تشيرُ إلى مشاربَ ومراجعَ واحتمالاتٍ شتى. ولكنَّ النقّاد في الأردن وخارجها قلَّما انتبهوا، أصلاً، إلى تجربتي التي تمتدُّ منذ أول كتابٍ، وكان للأطفال «الماستان» إلى 30 عاماً، بحيثُ شعرتُ طوالَ هذه السنين بأني أمشي في الوعرِ، وأصطدمُ بحواسي وبلغتي وبأحبابي ولا شيءَ آخر! بل وكان النقد إذا ما جاء، فليقول إنَّ شعري أيضاً ما هو إلا تجربة شخصيّة، مع تلميحاتٍ إلى أنني لستُ سوى امرأةٍ في الأربعين فاتها قطارُ الحبِّ والجمال!!
على أنَّ أوَّلَ ديوانٍ صدرَ متأخِّراً عام 1998، أي بعد 32 سنة من تخرُّجي من الجامعة. وهي مدَّةٌ مهولةٌ لبياتٍ شتويٍّ، ولكنني لم أكن خارجَ الكتابةِ بل خارجَ شرطها الأول: الحريّة! كنتُ أكتبُ أفكاراً ونصوصاً كيفما اتَّفق، وكان عليَّ بعدما ملكتُ مقاديرَ ذاتي عام 1987 بصدور «في الزنزانة» عن الهيئة المصريّة العامة للكتاب، أن أرمحَ في الآفاق أستنشقُ الأكسجين، وأن أجدِّدَ معرفتي بالشعرِ وأُعيدَ تعريفَه لديّ. وكان عليَّ عبر دواويني جميعِها أن أنقلَ نفسي، روحيّاً ولغويّاً، من بابٍ إلى بابٍ في المجازِ وفي قراءةِ الكونِ ورصدِ وقعِه عليّ. وبذا كانت كتبي في الشعر لا تشبهُ بعضَها؛ حيثُ يمثِّلُ كلُّ واحدٍ منطقةً منه دخلتُها وعبثتُ فيها بما عاينتُه من وجدٍ ومن جوى. فالحبُّ هو شاغلي الأكبر، وبه بنيتُ وجودي الماديَّ والمعنويَّ، وهو السلكُ الماسيُّ الذي يلضمُ شعري كلَّه. وإذا كان الصوفيُّ يتوسَّلُ إلى حبِّه القدسيّ الربّانيِّ بصورٍ بشريّة، فإنَّ مزيجَ الحسيِّ الدنيويّ بالنورانيّ العلويِّ عندي هو الشعر، وهو ليسَ صدامَ نقيضين عندي، بل تآلفٌ كأنَّه مِزاجُ ثلجٍ بشرابٍ مسكر. فبمقدار ما كنتُ أحاولُ أنسنةَ الحبيب وفهمَ بشريّتَه، إلا أنَّه سرعان ما كان يتحوَّلُ في وجداني إلى كينونةٍ إلهيّة، فكأني ما زلتُ في عصور التاريخ الأولى أبحثُ في بدائيَّة الأفكار والمشاعر عن غيبٍ عظيم يلبّي نزوعي نحو عبادة الكامل، وله ألفُ ذراعٍ في الخير والجمال. كاملٌ في الحبّ وما من تساهلٍ. ومع محاولاتي المضنية أن أخرج من المثاليّة إلى التجريبيّة الواقعيّة، إلا أنني في الحبّ ما زلتُ حتى اللحظة الراهنةِ أسيرةَ خيالِ الأوائلِ وسطوةِ أحكامهم المطلقة. فأنا في النهاية ابنةُ كَمالَيْن: الأول منهما الصوفيّ، شربتُه وطَعِمتُه وتنفَّستُه في بيت أمي وأبي، والثاني الشعرُ الجاهليُّ، تمشَّيتُ فيه وتشمَّستُ وتظلَّلتُ نخيلَه العالي. فالجاهليُّ العاشقُ بدا في معلقاته عابداً لإلهةٍ عشتاريّة، ترفلُ بصفات الكمال في كلِّ شيء؛ جسداً وعُلوَّ شأنٍ في الخير والحفاوة والقدرة والأبَّهة والجمال والجود. فقد صاحبتُ هذا الشعر منذ سني الجامعة وعبر برنامجَيْ الماجستير والدكتوراه مع عميد أساتذة الشعر الجاهلي الدكتور هاشم ياغي، الذي كان له أسلوبُه الفذُّ في سبرِ أغواره، والكشفِ عن بديعِ بنائه وصُوره ولغته. ولم أكن لأدري أنَّ شغفي بهذا الشعر كان يرويهِ نهرُ التصوُّف، على ما بينهما من بُعدٍ ظاهريّ. بل سيتأكَّد هذا الولعُ بالكمال في التتلمذِ على الوجدانِ العُذريِّ في بذله النَّفسَ والذهابِ بها إلى آخر قطرةٍ من حياة. فالتصوُّف الذي كان يرحِّبُ بنكران الذات، بل يدعو إليه كشرطٍ أوَّليٍّ للارتقاء في المراتب، كان يلتقي مع آلِ عذرةَ ممن أهلكهم الحبّ، وكنتُ بطبيعة الحالِ ضدَّ أيِّ تفسيرٍ له على أنه نتاجُ عاطفةٍ مقموعة لم تكتمل بلقاء الجسد، في إشارةٍ إلى تقليدٍ للعرب في منع زواج الشاعر ممن شبَّبَ بها، خوفَ سوء الظنّ! وكانت دواوين جميل والمجنون وكثيّر عزة قرب سريري أنهلُ منها وأتخيّرُ لمِحَني في الحب.
كانت صورتي في شعري كعاشقةٍ، لا تختلفُ من حيثُ البنيةُ عن نشيجِ مريدٍ في طريقةٍ عصا، فانهجرَ فساح على وجهه! وكنتُ كما قالت الشيخة فاطمة الغرناطيّة عن تلميذها الشيخ محيي الدين بن عربيّ: إذا دخلَ دخلَ بِكُلِّه، وإذا خرجَ خرجَ بكُلِّه. ولذا كان الخروج من الحبِّ في شعري يعدلُ ألمَ الدخول فيه.

تناولتني بالسوء منشوراتٌ سريّة وُزِّعت في عمان وأقلامٌ متأسلمة وصفتني بالعمالة للغرب الكافر وبالتصهين
وكان السببَ دوماً انزياحُ الشخصِ عن معنى الكمال، أي التنازلُ عن صورة الإلهِ والوقوعُ في البشريّ وضعفِه. وهذا يُفسِّرُ الصرامةَ التي أهجو بها المحبوبَ، ولا علاقة لذلك بفكري النِّسويّ أو موقفي المتصوَّر من الرجل. وسأضربُ على ذلك مثالاً بقصيدتين «فصلٌ من رائحة المشهد وصورة الإخلاص» (دفتر الرائحة، 2014، وزارة الثقافة، عمان، ص ص 206-216) و«حقلُ نرجسٍ للخائن» (م. ن. ص ص 217-222).
وإذا كان ديواني «تراتيلُ الكاهنة ووصايا الريش» (1999، وزارة الثقافة السوريّة، دمشق) ينشغلُ بتلقيط الشِّعر من مفرداتِ الحياةِ والحضارة والطبيعةِ، بتأثُّرٍ ما، أراه الآن واضحاً، بالشعر الجاهليّ، فإنَّ أحدَ أهمِّ كتبي «دفتر الرائحة» (2014، وزارة الثقافة، عمان) يذهبُ إلى معنىً ربَّما يكون جديداً في الشعر العربيّ من حيثُ انشغالُ ديوانٍ كاملٍ به، أقصد الرائحة. فقد فتنني أني عثرتُ، وأنا في المراهقة، في اسطنبول على رائحة عكا، مدينةِ طفولتي الأولى. إلى أن قرَّرْتُ الإفصاحَ عنها، بعد نصفِ قرنٍ ونيّفٍ، في مشروعٍ تقدَّمتُ به إلى برنامج التفرُّغِ الإبداعيّ في وزارة الثقافة الأردنيّة. فالكتابُ بكليّته مبنيٌّ على الرائحة، سواء أكانت جسداً أم تاريخاً، أم مكاناً، أم أشخاصاً، أم شيخوخةً، أم حبّاً، أم معنىً. مما منحني أن أضيفَ إلى تجربتي بُعداً في تقلُّبِ أحوالِ الحبّ وأحوالِ اللغة.
ذلك أنَّ اللغةَ عندي مركزٌ يعادلُ الوجود. إذ عجنتُها وعجنتني، وعاشرتُها وعاشرتني، كما لو كنا الأمَّ وابنتَها، أو توأميْ حرمان، حيثُ تحنُّ إحدانا على الأخرى. وإذا كان الشاعر الكبير أدونيس يرى أن اللغةَ وطنُه، فهي لي كذلك أيضاً. إنها بيتي ومأواي، بل هي مشيمتي، وآلة صناعتي، ووعاء همّي، وحقلُ نزهتي، ومرتقايَ. ولذا تقفُ اللغةُ في واجهةِ شعري، تحدِّدُ مساري في التعاملِ معها، وهويّةَ تنقُّلي في المقامات والأحوال. ولأنَّ لها بي قويَّ الثقةِ، من طويل المسارَرة والمعاشرة، فإنها تُسلمُ نفسها لي أصنعُ بها ما أشاءُ، وتُغدقُ. فاللغةُ مادةُ إبداعي، وأيُّ خللٍ في التعاملِ معها، سيوجدُ خللاً كبيراً في أعمالي. وعلى ذلك كان اشتغالي على اللغة يوازي انشغالي بالحبّ، لأنَّ الجَمالَ الذي كان مبتغايَ لم يكن يتأتَّى لي دون جماليّات اللغة، تلك التي تصلني بالنزوع الأوَّل إلى النُّطقِ وبتاريخِ وجودها البديع.
ولما كانت اللغةُ على هذا النحوِ في حياتي، ولما كنتُ اعتنقتُ مذهبَ النِّسويَّة في تفسير العلاقات الإنسانيّة، فقد وجدتُني أبدأ في العربيّة فرعاً جديداً من فروعِ المعرفة والنقد اللغوي الجندريّ، وبذا كان كتابي «اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسويّة» (1996، مركز دراسات المرأة، عمان) أوَّلَ كتابٍ بالعربية في معناه ومبناه. تلاه كتابي الثاني «أنثى اللغة: أوراقٌ في الخطاب والجنس» (2009، دار نينوى، دمشق). وما من ضرورة للقولِ إنَّ أحداً من النقاد لم يتناول حتى الساعة أياً منهما بالنقد والدرسِ. مع أنَّ الأوَّلَ منهما يُدرَّسُ في عدد من الجامعات ومراكز البحث النِّسويِّ العربيّة، ومنها قسم اللغة العربيّة في الجامعة الأردنيّة، حيث دأب أستاذي الدكتور نهاد الموسى على استضافتي سنويّاً للقاء طلبته في برنامج الدكتوراه. لقد حرمني من الحفاوةِ النَّقديّة التي تشبه في شروطها الحفاوةَ الرسميّة، التباسي بموضوع تحرّر المرأة، الذي يشكّلُ غولاً مرعباً لقوى الشدِّ العكسيّ، وأصحابِ نظريّات الثوابت في المجتمعِ والكتابة، حتى أنَّ أحدَ الأساتذة (ج. ع.) في الجامعة الأردنيّة علّقَ على رقعة الدعوة إلى حفل توقيع كتاب اللغة الغائبة، دون أن يراه أو يطلعَ عليه، تعليقاً لا يختلفُ عن شتائمِ شيوخِ الجوامع، ولسوء حظِّه كانت ابنتي حاضرةً فسجلت لي جميع ما فاضَ به لسانُه العطرُ العفّ! كنتُ أدفع ثمنَ النضال للمرأة بفواتير شتى، ليس آخرَها ولا أهمَّها لقمةُ العيش، حيثُ نُحِّيَ كومُ خبرتي كوطنٍ لأوبئة الحداثة وتحرير النساء. ولكَم كان أمراً مخيِّباً للآمال تجاهلُ النقد، لأنه يشي بمقدار ابتعاد أهله عن المكتبة والإصدارات الجديدة، وبمقدار نأيِه عما يتجدَّد من معارف على الساحة العالميّة.
وعلى ذلك، فإنَّ دعوتي من مؤسَّسة شومان إلى الحديثِ عن تجربتي الأدبيّة، هي دعوةٌ بالإنابة، لأنَّني أوَّلُ من تكلّمَ عن تجربتي مجتمعةً، وأرجو أن لا أكون آخرهم.