خلال السنوات الماضية، كثرت الدراسات حول «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، ذلك أنّه ليس مجرد «نتيجة» واقعية موجودة على الأرض بل لأنّه يرسم وسيرسم ملامح المنطقة خلال عقودٍ آتية. من هنا جاء كتاب «الحرب العالمية الثالثة: داعش والعراق وإدارة التوحّش» للباحث العراقي ياسر عبد الحسين (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر). تبلغ المناقشة في الكتاب أشدّها حول «ماهية» التنظيم، و»ماهية» قادته، والهدف الذي يسعى إليه: هل هو الخلافة؟ هل هو الإسلام الأصيل وفق ما تشير أدبيات التنظيم الأصولي ذي الصورة الرهيبة؟ أم أن هناك «قطبةً» مخفية خلف كل ذلك؟ تأتي مقدمة الكتاب الطويلة نسبياً (80 صفحة) بقلم الكاتب المغربي إدريس هاني الذي يؤكد أنَّ «الإرهاب امتدادٌ للسياسة» وعنصر تأديب تستعمله الدول الكبرى تجاه دول أصغر لأهداف متعددة، فتارةً يكون الهدف تجنب مواجهة مباشرة مفتوحة، وطوراً يكون إضعافاً دون تدخلٍ عسكري، أو حتى يكون إرغاماً على أمرٍ لم تكن تلك الدولة الصغيرة ترغب فيه أصلاً.
يعبّر هاني عن فكرته بأن الإرهاب سوقٌ سوداء، مشيراً إلى أنّ أصحابه «مرتزقة»، لكنهم مرتزقةٌ حديثون، بعيدون عن الأشكال الأساسية للارتزاق كما كان يعرف سابقاً. وفق هاني، لا يرى الغرب أبداً الإسلام (وبلاد الإسلام والمسلمين والشرق) كما نراه، وبالتالي هو يتعامل معه بالطريقة التي يراها، ففكرة الإرهاب في الأصل هي فكرةٌ غريبة، ومطبقةٌ بشكل أو بآخر عليه، ومن قبل الغرب نفسه. لذلك، فإن محاربة الإرهاب عن طريق فكرة «اجتثاثه» قد تكون ذات نتائج وخيمة ولا تنفع في بلادٍ لا يدري الغرب عنها إلا ما يعتقد أنه صواب لا ما هو صوابٌ فعلاً. وفي ختام مقدمته، يعرّج هاني على المستشرق المعروف برنارد لويس وتصريحه المخيف بأنّه آن أوان تقسيم البلاد العربية إلى وحداتٍ مكونةٍ من عشائر وطوائف. تلك المقولة برزت نتائجها وتطبيقاتها الفعلية بعد الحراك الذي عرف باسم «الربيع العربي».
في «الحرب العالمية الثالثة»، يغوص ياسر عبد الحسين (حائز دكتوراه في العلاقات الدولية، ويعمل كمدير لـ «مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية» في بغداد) في التنظيم الأصولي عميقاً باحثاً عن «موجبات» وجوده قبل الدخول حتى في نقاش حيثيات بقائه واستمراريته. حين نستعمل تعبير «يغوص»، فذلك فعلياً ما يفعله عبدالحسين. إذ أنه قابل عدداً كبيراً من الإسلاميين حيثما استطاع: في بيوتهم، قراهم، وحتى السجون التي يقبع بعضهم فيها. يبحث الكتاب في خفايا التنظيم ذي السمعة المخيفة. وكي يصل إلى ذلك، فإنه أيضاً يتعامل «بحرفة» المطلع على الأشياء، فيورد معلوماتٍ تقال للمرة الأولى، ويكشف «خفايا» وأسراراً قد لا يعرفها غير أصحاب الشأن سواء من «داعش» نفسها أو في القوى الأمنية التي لاحقت «داعش» لسببٍ أو لآخر.

وثائق وصور تنشر للمرة الأولى عن أبو بكر البغدادي

أبرز ما يأتي عليه الكتاب هو «تعريةٌ» شاملة للرجل/ الأسطورة الذي لا يعرفه أحدٌ بشكلٍ دقيق رغم أنه يُفترض أن يكون «واجهة» التنظيم: إنه أبو بكر البغدادي، «خليفة المسلمين» بحسب تنظيم الدولة الإسلامية (يناقش الكاتب أنه يستعمل التعبيرين أي «داعش» أو الدولة الإسلامية لأسباب تقنية بحثية بحت لا سياسية البتة). يعري الكتاب البغدادي، فيفتح للقراء مكتبته الخاصة، يظهر لهم شهاداته الجامعية، وصوراً تنشر للمرة الأولى لتلك الشخصية الغامضة. تضاف إلى ذلك محاولته سبر غور «طبيعتها» وكيفية وصولها إلى هذا المكان وما هي احتمالات أن تكون هذه الشخصية تستحق فعلاً أن تكون «خليفة» المسلمين.
يحمل الكتاب مفاجآت كثيرة. هو يعمل ضمن نظام «سبر الغور» في التعامل مع الأعماق، لكن منذ بدايته يؤكد بأن «داعش» كما حركة «طالبان» الأفغانية قبلها، مآلها إلى الزوال، مفككاً البنية الأساسية للتنظيمين ومركزاً على مبدأ أنّه من الصعب الاستمرارية والتواجد طالما أنك تريد أن تظل «غريباً ومغترباً». يوظف عبد الحسين التعبير(أي غريباً ومغترباً) بشكلٍ عملاني، فهو يؤكد بشكل تطبيقي كيف فشلت «طالبان» في استقطاب البيئات المحاذية والمحيطة، وكذلك «داعش» الذي يخسر يوماً بعد يوم مناطق نفوذ وقوى مؤيدة، فهي مآلها إلى الزوال. ولو أنها صمدت بضع سنين أخرى، فإنها في النهاية ذاهبةٌ إلى نهاية محتومة. لكن مع هذا كله، يظل ملتزماً بواقعية منطقية: «التنظيم» لن يختفي نهائياً، بل سيبقى خبيئاً حتى الحاجة مرةً أخرى إليه. نشأ التنظيم أصلاً بفضل حاجةٍ اجتماعية وسياسية إليه، وقد يعود إذا عادت الحاجة من جديد. إن قمع الأنظمة وفشلها الإداري والسياسي والأوضاع الاجتماعية الصعبة والقاسية تولّد حالة شديدة من الإحباط، مما يقود إلى «حلولٍ جذرية»: هكذا يولد التطرّف والإرهاب. ولأن كلمة «إرهاب» شاسعةٌ، يفرد الكاتب متسعاً كبيراً للبحث عن أصول جامعةٍ للكلمة، ليكتشف بأنه تعبيرٌ حديث العهد، ولد في القرن الثامن عشر. إذ استعمل كثيراً أخيراً، فتعريفاته كثيرة لا حدود واضحة لها. كلٌ جماعةٍ تصيغ «تعريفاً يناسبها ويناسب حاجتها، حيث يمكن مثلاً لجهةٍ حكومية أميركية القبض على أحدٍ تحت مسمى «الإرهاب» وفي الوقت عينه، لا تعتبر جهةٌ حكومية (من الدولة نفسها) هذا الشخص إرهابياً البتة».
ماذا يريد الإرهابيون؟ ماذا تريد «داعش» مثلاً؟ يضع الكاتب احتمالاتٍ كثيرة أمام هذا السؤال. هو لا يجيب بشكلٍ مباشر، فالإجابات المباشرة غير موجودة لدى هذه الحركات. يستعمل الإرهابيون الدين كمطية ووسيلة منهجية للحصول على ما يريدون، وبعضهم ــ خصوصاً الطبقات الشعبية البسيطة منهم ـــ مقتنع بأنّ هدفه «بريء» و»طاهر». لكن لدى الغوص أكثر، يمكن ملاحظة المكاسب السياسية، كما التوجهات «المادية» لأهداف تلك الجماعات. بطبيعة الأحوال كي تفهم هذه التنظيمات، يجب النظر عميقاً في ماهية الفكر الذي تستمد منه «داعش» وسواها قوتها «الفكرية». من غير المعقول أنها «ناشئةٌ» من الفراغ. يتابع عبد الحسين شخصياتٍ أثّرت في التنظيم أكثر من غيرها، كأبو محمد المقدسي، المفكر الإسلامي الأبرز وإحدى الشخصيات التي يعتبرها كثيرون أهم مفكّر للحركات التكفيرية الجهادية منذ نشأتها. يعتبر المقدسي الأردني الأصل المجنّد الأول لأبو مصعب الزرقاوي ومصدر «وحيه» وإلهامه، فالقائد المعروف بدمويته كان يأخذ فتاويه الجهادية بشكلٍ مباشر من المقدسي. ورغم أنّ المقدسي قد غيّر كثيراً من أفكاره، إلا أن التأثر لا يزال واضحاً وشديداً. تتمركز «داعش» اليوم في العراق، فكثيرون يشيرون إلى أن التنظيم «عراقي» قلباً وقالباً (وإن حوى أجانباً كثراً). يطرح الكاتب تساؤلاً: هل «داعش» كانت موجودة قبل احتلال العراق؟ هل كانت هناك فعلياً علاقة بين تنظيم «القاعدة» وزعيمه أسامة بن لادن والرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، خصوصاً أن الولايات المتحدة بنت «حربها» بكاملها على اتهامٍ بتلك العلاقة المفترضة؟ يورد الكتاب كثيراً من إجابات حول تلك المسألة وبدقة بالغة.
في الختام؛ «الحرب العالمية الثالثة» كتابٌ يستحق القراءة، يضع المتلقي أمام إجابات على أسئلة تخطر في باله حول تنظيم لا يكتفي بإثارة الضجيج حوله، بل يشكل «ملمحاً» أساسياً من ملامح الشرق في العصر الحالي.