هل ثمة جديد ليكتب عن وكالة الاستخبارات المركزية وجرائمها في مختلف بقاع العالم؟ قد يحار المرء في هذا، خصوصاً في عصر سنودن وويكيليكس. لكن ثمة حقاً ما يضاف إلى المسألة. الكاتب دوغلاس فالنتاين صحافي جدي، وليس باحثاً عن الشهرة أو ممن يبيعون أنفسهم ممن يعرفون حالياً بالصحافيين الدعرة (presstitutes) الذين يؤجرون أنفسهم وأقلامهم مقابل المال، ومن دون أي احترام لمهنتهم وقواعدها المفترض أنهم تعلموها في الكليات. دوغلاس فالنتاين، من صنف الرجال النادرين في هذا العالم، مثل سيمُر هِرش الذي فضح مذبحة ماي لاي في فييتنام، عندما نفّذت قوات أميركية قتلاً جماعياً للرجال والنساء والأطفال، عن سبق إصرار وترصد، وليس بالخطأ. ومن الجدير ذكره في هذا المقام بأن قُلِن بَوِل رئيس الأركان الأميركي الأسبق ووزير خارجية جورج بوش الابن حاول منع انتشار الخبر عن مذبحة ماي لاي.

القراء المتابعون يعرفون الكاتب من مؤلفه السابق «برنامج الفونكس» the phoenix program: الذي فضح قيام القوات الأميركية بالتجسس على المواطنين في فيتنام وخطفهم وتعذيبهم وقتلهم.
لا يمكن عدّ كتاب «وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) جريمة منظمة - كيف تفسد العمليات غير القانونية أميركا والعالم» جديداً على نحو كامل لأن الكاتب نشر ــ عبر لقاءات ــ ما نشره سابقاً في المؤلف آنف الذكر، لكنه أضاف أقساماً مهمة إليها سنعرضها لاحقاً. قسم العمل إلى أربعة أجزاء، تلي المقدمة وفصلين مدخلين كالآتي:
1) المقدمة وتحوي فصلين هما «كيف منحني وِليَم كُلبي مفاتيح مملكة وكالة الاستخبارات المركزية» حيث ينبه القارئ إلى أن معظم مصادره كانت أولية، ويشرح كيف وصل إلى معلوماته الخطيرة بفضل دعم رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، وليم كُلبي، الذي لم يكن يعلم أهداف المؤلف، فقدم له تسهيلات غير مسبوقة للتواصل مع كبار مسؤولي الوكالة الذين ظنوا بدورهم أنه من العاملين فيها. الفصل الثاني: «أمر يقود إلى التالي: اطلاعي النادر في أبحاثي عن الحرب على المخدرات».
القسم الأول من المؤلف «برنامج وكالة الاستخبارات المركزية المسمى برنامج فونكس في فيتنام: قالب جاهز للهيمنة المنهجية». يوضح الكاتب في هذا الفصل الذي يضم تسعة فصول، كيفية تطبيق «برنامج فونكس» للهيمنة على السكان، ويتابع سياسات الوكالة وأعمالها وبرامجها ابتداءً من فيتنام مروراً بأفغانستان وانتهاء بأوكرانيا. في الفصل الأخير من هذا القسم، يتحدث الكاتب عن التغيرات الإدارية المستحدثة في الوكالة.
القسم الثاني «كيف تتبنى الوكالة الحرب على المخدرات وتديرها» خصصه الكاتب للحديث في قوانين المخدرات في الولايات المتحدة وكيفية مكافحتها ومحاربتها. أما القسم الثالث، فهو «برنامج فونكس أساس [وزارة] الأمن القومي/ Homeland Security». يتحدث في فصول هذا القسم الثلاثة عن العلاقة بين أعمال وكالة الاستخبارات الأميركية وبرامجها وأعمال مكتب مكافحة المخدرات (drugs enforcement agency, DEA)، وأعمال [وزارة] الأمن القومي.

خفض المصاريف العسكرية سيؤدي إلى الركود الاقتصادي

القسم الرابع والأخير «صناعة التورط: تشكيل الرؤية الأميركية للعالم»، خصصه الكاتب للتنويه إلى كيفية تعامل الصحافة الأميركية ومختلف وسائل الإعلام/ التضليل هناك مع ما كشفه من حقائق، وتجاهلها عن سبق إصرار وتعمد. كما يشرح وسائل النشر التي اتبعتها بعض وسائل التضليل للتقليل من أهمية ما كشفه من جرائم وفضائح وفرض الرقابة على أجزاء منها، وتجريدها من الأهمية التي تستحقها، وتحويلها إلى أخبار أقل من عادية ليست ذات تأثير في الرأي العام الأميركي.
معرفة أهمية هذا المؤلف الشجاع تستوجب التنويه إلى قانون إنشاء وكالة الاستخبارات المركزية المسمى «قانون الأمن الوطني» في عام 1947، وقد قيل إن هدفه دعم مختلف قطاعات القوات المسلحة تحت قيادة وزارة الدفاع بهدف التقليل من المصاريف، وفي الوقت نفسه، منع ظهور منافسة بين مختلف الأجهزة، وتأسيس قوات مسلحة أميركية حديثة. هذا القانون أسس مجلس الأمن القومي الذي يعدّ وزارة حرب دائمة، ووكالة الاستخبارات الأميركية والمؤسسة العسكرية القومية (national military establishment) التي استحالت لاحقاً وزارة الدفاع. ونظراً إلى حقيقة أن القانون الدولي عدّ الحروب العدوانية أخطر جرائم الحرب، فمن الواضح أن تأسيس هذه المؤسسات الثلاث وضع الولايات المتحدة في وضع ارتكاب جرائم حرب على نحو مستمر، ومن هنا يأتي عنوان المؤلف. فمهمة الوكالة التجسس في العالم لإبلاغ وزارة الحرب دائمة الانعقاد، أي «مجلس الأمن القومي»، عن إمكانيات خوض حروب عدوانية في مختلف بقاع العالم. من المعروف والجدير بالذكر أيضاً أن الإدارة الأميركية بدأت بفض قواتها المسلحة بعد الحرب، لكن النخب بدأت تحذر من أنّ خفض المصاريف العسكرية سيؤدي إلى الركود الاقتصادي الذي عصف بالولايات المتحدة ودول الغرب الرأسمالي في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، إضافة إلى فقدان واشنطن هيمنتها على العالم.
عبر مختلف أقسام المؤلف وفصوله، يشرح الكاتب كيفية عمل وكالة الاستخبارات المركزية والمهام المنوطة بها ليوضح أن وجودها يعدّ جريمة منظمة. كما يوضح أن الوكالة منظمة أساسها طبقي وعنصري وهدفها الدفاع عن مصالح المؤسسة الحاكمة.
لأن الكاتب اعتمد على نحو كبير على ما ذكره في مؤلفه آنف الذكر، لذا نرى أن فهم رسالته على نحو أفضل يستدعي من القارئ المهتم العودة إليه وقراءته بتمعن.
أهمية هذا الكاتب ومؤلفه تساوي، إلى حد ما طبعاً، عمل مجموعة من المسربين والصحافيين الشجعان الذين لم يؤجروا أقلامهم ولم يبيعوا أرواحهم للشيطان، الشجعان إدورد سنُدن والصحافي سِيْمُر هرش ودانيال إلسبرغ وغلن غرينفالد وغيرهم من الجنود المجهولين والمعروفين.