كان الصباح لئيماً، حاراً، ورطباً، بلا أي نسمة مغوية، ولا أمل في ولادة نسمة مغوية، حين طرقت برفق أولاً، ثم بشيء من العنف، ثم بعنف أشد تورماً، ذلك الباب الخشبي، المترب، العريض، الذي يبدو قديما جداً، لنزل: «الأخوات»، المبني بالحجر الصلد، والمدهون بلون أبيض متصدع، الذي أنزلني أمامه «متوافق هجو»، صاحب الحمار النحيل، ومضى بعد أن استلم أجرته ربع دينار، وزودني بوصف بيته، حتى إذا ما احتجت إليه في أي شيء، قصدته، وكان التقطني من مرسى المراكب القريب من المنطقة، حيث وصلت اليوم فقط إلى «بوادي» عاصمة مملكة «طير»، بعد ثلاثة أشهر من السفر المغامر، المرعب، في بحر، ساخر مهتاج، كان يتلاعب بمركبنا، ويسخر من كل مهارة نبديها في الحفاظ على توازن كنا بالكاد نعثر عليه.
كان الطريق شبه خال في تلك اللحظة، وقد توقف رجل مسن، أشيب، داكن البشرة، ومتسخ الثياب قليلاً، كأنه بناء أو عامل في صناعة الطوب، طالعني ببصر معتل، برهة، ومضى في طريقه من دون أن يطرح أي سؤال، وبدت امرأة من بعيد، تجر طفلاً باكياً، ملتصقاً بالأرض، يقاوم الجر، وبعض المعممين، خمسة أو ربما ستة، يحملون عصياً ودفاتر، في أيديهم، ويمشون بصرامة، وخمنت أنهم مدرسون، في الطريق إلى عملهم، أو ربما دارسون في الطريق إلى درس.
كان المبنى الملاصق للنزل من الناحية اليمنى، مبنياً بالحجر أيضاً، ويبدو أكثر هيبة ونظافة، وقد طلي بلون أزرق غامق، وكتب عليه بخط أفضل من ذلك الذي كتب به اسم النزل: بيت الأرامل، والآخر الملاصق للنزل من الناحية اليسرى، مجرد حوش مسور بحيطان طينية قصيرة، وثمة أغنام مشتتة بداخله، أراها من بعيد ترعى في حشيش يابس، وأسمع أصواتها بوضوح، بينما يبدو هيكل رجل، جالس على دكة مرتفعة في أحد أركان المرعى، يداعب أسفله، أو لعله يحك مكاناً مستعراً بتحسس ما، فلم أتبين الأمر جيداً. فكرت قليلاً في معنى بيت الأرامل، وهل هو بيت يؤوي بعض أرامل بوادي بالفعل؟ أم مجرد اسم أراد به صاحبه أن يتميز بلا معنى، وكان هذا هو الأرجح، لأن بيتاً بهذه المساحة المحدودة، لا يمكن أن يؤوي أكثر من عشر أو عشرين أرملة أو ربما خمسين، على الأكثر، في مملكة برغم قلة حروبها، التي قد تحصد الرجال، لكن الموت يحدث دائماً، بطريقة أو بأخرى.
التفت خلفي بحذر، شاهدت مدخنة في بيت قريب، يتصاعد من فمها بخار أسود، شاهدت رجلاً نائماً في عراء بعيد، وامرأة على سطح بيت طيني، يبدو نصفها الأعلى جامداً، وتتحرك يداها بسرعة، كانت تغسل أو تعجن، أو تهدهد طفلاً، لا أدري. لم أحس بالريبة، لم أحس بأي شيء. كنت وصلت بوادي وفي رأسي دوار مؤلم، في قلبي توجس كبير، وفي جسدي ربما توجد عشرات العلل الهادئة، لكني لم أكتشفها بعد، وقطعاً أحتاج إلى خلوة أولاً، وإلى إحساس بالأمان وأن لا أحد يتتبعني، أو يراقب ترنحاتي، لأعثر عليها، وأنجو منها أو أموت بها.. وأظن أن نزل الأخوات الذي أحضرني إليه متوافق، صاحب الحمار، وأخبرني بنظامه، وانضباط صاحبته، لدرجة بعيدة، وبعده عن المشاكل، يفي بالغرض في هذه المرحلة.
لم تكن في الحقيقة، مرتي الأولى ولا الثانية، ولا الثالثة، في ركوب البحر، ومصافحة أخطاره عارية بلا ستر، لكن الأمر بدا لي مختلفاً، ربما لأن مهمتي هذه المرة، تبدو غامضة، ولا أعرف عنها شيئاً حتى الآن، وربما، هو الإحساس بتقدم العمر، فقد بلغت الأربعين، وأنا دائخ في عرض البحر، وأعلم أنها السن التي تتقدم الموت بخطوات قليلة فقط، على الأقل في عائلتي التي يموت معظم أفرادها قريباً من هذه السن، فجأة، أو بعلل باهتة جداً مثل ألم في ضرس العقل، أو تورم طفيف في الرقبة، أو مغص وانتفاخ في البطن، بعد عشاء دسم. كانت أمي قد ماتت صغيرة، ربما حتى قبل سن الثلاثين، وقيل سمعت الموت يسألها: هل نذهب يا أمينة؟ ردت: نعم، وذهبت، وعندي عم مات في الثانية والأربعين وكان ينام على ظهره في العادة، ومات في الليلة التي غير فيها طريقة نومه، ورقد على بطنه، وعمة في الثالثة والأربعين، ظلت تشم رائحة جثتها ثلاثة أيام، كما كانت تقول، وتستفرغ، ولا أحد يعرف شيئاً، أو يستطيع التكهن بشيء، قبل أن تسقط بلا أنفاس في النهاية. وإن كان أبي قد عاش طويلاً جداً، ويعيش حتى الآن، بكامل خلاياه، وقد تجاوز التسعين، وأختي التي تصغرني بستة أعوام، أسمع كثيراً عن جبروتها، وغرابة هيكلها الذي يشبه هياكل الرجال، وأنها يمكن أن تصرع ثوراً متبجحاً، وحماراً مهتماً بصلابة ظهره، وذئباً خطراً، من لصوص الأغنام والدواجن، وتبدو لي مرشحة للعيش طويلاً، والتحول إلى شجرة، وكان لقب الشجرة، يطلق على النساء المعمرات، ممن تجاوزن المئة، وامتلكن الحكمة، وأصبحت أقوالهن وأحلامهن وحتى نزواتهن، فقرات مقدسة بين الحكايات. وفي بلادي أكثر من عشر شجرات يابسات لكنهن مقدرات بشدة، ويستمع إليهن الملك ووزراؤه، ويمكن جداً أن يخرفن بأي إفراز أو بصاق، ويتحول إلى فقرة هامة في الدستور، وقيل إنّ المرسوم الذي أصدره الملك ذو النجمة، حاكم البلاد السابق، ويقضي بشرعية استخدام الأظفار الطويلة المسننة للنساء، في خدش وجوه الأزواج في أي لحظة يشعرن فيها بالملل، أو ببوادر أزمة نفسية، لم يكن سوى تخريف أبله، خرفت به الشجرة: هوايا، وكانت في المئة والعشرين، وبالكاد تسمع أو تبصر أو تشم. كنت أسمع عن عائلتي في الحقيقة، من بعيد، فلم تعد لي صلة ببيت ولدت فيه، ولا أهل كانوا في ما مضى أهلي، منذ خرجت ذات يوم وأنا في السادسة عشرة، ولم أعد أبداً.

لا أعرف كم روحاً سرقت حتى الآن، ولماذا على بعض الناس أن
يموتوا بيدي وحدي

كنت أحمل بيدي اليسرى حقيبة قماشية بيضاء تحوي ملابسي القليلة، وبعض أغراضي التي أستخدمها في العمل، من أدوات حادة، وقنان صغيرة فيها سوائل قاتمة وشفافة، وفي قاعها تلك الرسالة المطوية التي استلمتها قبل السفر بساعة واحدة، وأمرت بأن لا أمسها، أو أتحاوم بأفكاري حولها، إلا في بوادي، وشكل لي ذلك هاجساً ما، لكن ليس كبيراً ولا منغصاً، أمسك بيدي اليمنى، عصا سوداء من خشب عادي أملس، لطالما رافقتني في رحلاتي التي كنت أقوم بها للصيد أو التسلية، حين أكون منشرحاً، ولا يشغلني شيء، وهشت عني الكلاب الضالة، والقطط المتطفلة، وأيضاً نظرات البشر التي كنت أخالها تتحاوم من حولي، كلما سرت في طريق، أو جلست في حانة، أو ارتميت تحت شجرة، في إحدى القيلولات، بينما تحت ملابسي وحول وسطي، في حزام آمن من الجلد المتماسك، ترقد دنانيري التي أحتاجها للعيش في بوادي، حتى أنجز مهمتي، وأعود إلى بلادي مبتهجاً، أو لا أستطيع إنجازها، وتنتهي القصة بنهاية لا أرغب حتى في تخيلها.
لم أكن في الحقيقة سندباد مغامراً، امتطى البحر بحثاً عن تسلية أو إنجاز ما، ولا عالماً فيزيائياً يخترق الطبيعة هكذا، ليستخرج من تقلباتها نظرية أو قاعدة، ولا تاجر عاديات أو محاصيل، يتتبع بضائعه، في تنقلها الطويل الممل، ويأمل في الوصول معها حيث تصل، ولا حتى بحاراً صغيراً ذاهلاً، في مركب يائس أو داعية للخلق القويم أو راهباً أو واعظاً، من أولئك المحتمين بإيمان يخصهم، ونزعة تطفلية تخصهم أيضاً، ويخوضون سكك السفر، بحثاً عن الضلال لهداية أصحابه، والشر لتحويله خيراً، كما يعتقدون، ولا كنت صاحب أي مهنة من الممكن أن تخطر على بال أحد، مهما تأمل قامتي الطويلة، وجسدي النحيل، وأصابعي الرشيقة إلى حد ما، ومهما سكن بنظراته، في عيني الهادئتين معظم الوقت، ولا تعطيان انطباعاً عن شيء.
كنت في الحقيقة قاتلاً، نعم سارق أرواح حقيقي، منحرف، ومتعجرف، وأمارس مهنتي هذه، منذ سنوات طويلة، بلا أي رغبة في التوقف، أو الالتفات لخربشة الكوابيس في أحلامي، وكانت فجة، ضارية، في البداية، وتحولت بمرور الوقت، إلى ممارسة عادية مثل الجوع والشبع والتثاؤب، ومضغ العلكة الذي أمارسه بانتظام، وبرغم ذلك ظل عدد من تلك الكوابيس، مجنوناً، مخيفاً مشحوناً بسعرات عدائية، يطاردني حتى في يقظتي أحياناً، وحين أحسه ذاب وتصدع، أجده يتكون من جديد. كانت بالتحديد: كابوس جيحا، صياد السمك الشبيه بالضبع، وسندرا، المرأة الغجرية التي كانت تعمل في الحجامة والكي، وكانت جميلة جداً برغم بلوغها السبعين، وسطوان، صانع المراكب الضخم الملقب بالغول، الذي مات بصعوبة، وحرقل طباخ الملك الذي ترددت مرات قبل أن أسرق روحه، والشفة، أجمل فتاة في المملكة، وكان أحبها الكثيرون بجنون، وقيلت فيها القصائد، وماتت بسبب غيرة متنفذة كما يبدو، وبالرغم من أنها كانت عملاً روتينياً، أو من المفترض أن تكون عملاً روتينياً، في وظيفتي القاسية، إلا أنني مرضت بعد موتها شهراً كاملاً.
ومنذ أن وظفني «ديباج الفارسي»، صانع التمائم، الأكثر حظاً، بين زملائه في البلاد، وكان صديقاً مقرباً جداً، في هذه المهنة الغريبة، الملعونة، النادرة في ذلك الوقت، وأنا أؤديها بالطبع في الخفاء، بلا سعادة كبيرة، ولا أستطيع إلا أداءها بهذه السعادة المحدودة، مبتعداً عن مهن أخرى، تمارس في العلن، وربما كانت ستسعدني أكثر، مثل مهنة الحاوي التي تعلمت بعض أحاييلها صغيراً، ومارستها مساعداً لساحر مغرور اسمه: الطبطب، بعض الوقت وتركتها، ومهنة صناعة أقفاص الدجاج، التي لم أبق فيها إلا أشهراً معدودة، وكانت من المهن المنهكة إلى حد ما، وأيضاً مهنة غاسل الموتى، وهذه أكسبتني الجلد، وسهولة تقبل الموت، وكان يمكن أن أستمر فيها زمناً، لكنني لم أفعل. لا أعرف كم روحاً سرقت حتى الآن، وكم نهراً من الدموع أريق على تلك الأرواح الضائعة، والأسوأ من ذلك، أنني لم أعرف أبداً، لماذا كان على بعض الناس أن يموتوا بيدي وحدي، ولم أكن أعرف معظمهم، أو كلهم تقريباً، ولا بيني وبين أحد عداء ظاهر أو باطن، ولطالما أحسست وأنا أعبث بالأرواح في الظلام، بأن العيون المتخبطة في الرؤية، تسألني لماذا؟، واللسان الذي يتمدد ويجف، في اللحظة التي تسبق الصمت الأبدي، يسألني أيضاً، ولا أعرف لماذا؟، وحتى الفارسي، صانع التمائم الوغد، نفسه لا يعرف لماذا؟، هو وسيط متحجر، يعرف الجاني، ومن يدفع من أجل الجناية، ولا شيء آخر، وقد سألته مرة، إن كان ثمة رذاذ من الكوابيس، يغزو أحلامه، أو يتسلل إليها مثلما يحدث معي، فابتسم، ضحك، قهقه:
لا كوابيس عندي يا «مرحلي»، إلا الكوابيس الممتعة، اللطيفة، صحبة نساء أتمنى أن ألعق غبار أحذيتهن في الواقع، ويأتين كاملات في الليل، أنا لم أقتل أحداً، ولم أسع لقتل أحد، أنا ناقل رسائل، ولست سكيناً أو خنجراً.
كان محقاً في رده، فهو لا يعرف إلا ما يراد له أن يعرفه، بعض الجوانب النائمة، أو المسترخية، في زوايا الموت، التي آتي أنا لإيقاظها، لإشعال ضجيجها، لاختراع تعازيها وملامح العيون التي ستدمع داخلها، وبعد أيام من ذلك السؤال، وتلك الإجابة، وجدته يزورني في بيتي فجأة، في وسط أحد النهارات، ولم يكن يزورني قط، بعد أن تعدل وضعي من صديق عادي إلى صديق خطر، أو بالأحرى، من صديق ناعم، إلى كارثة. ربما كان يخاف مني، وربما لا يود اختراق عزلتي، لأسباب هو يعرفها ولا أعرفها أنا.
كانت بصحبته فتاة ناعمة، فتاة آسرة فعلاً، لها عينان براقتان، وأنف صغير يبدو حساساً، وبه بثور صغيرة حمراء، وجسد لا أعرف إن كان مكتملاً حقا، أم مجرد جسد عادي لفتاة، ذلك أن ثقافتي في النساء لم تكن على ما يرام، كانت مريضة جداً، ومختصة بنساء الليل الباردات في جحورهن الرطبة، أغشاهن ساعة أن تكشر الرغبة السيئة، وتبحث عن جسد سيء لتخدشه. وكنت سرقت أرواح ثلاث هائمات، عاريات بناء على تعليمات، تستوجب سرقة أرواحهن، منهن سيما الطيبة، أو سيما أخت القمر، كما كانوا يسمونها، وكانت فتاة ليل لا تشبه فتيات الليل في شيء أبداً، ولولا أن لها بيتاً في حي وطرة الموبوء، وسريراً من الخشب الرخيص، ووعاء كبيراً لغسيل الشوائب، ودلواً به ما، وأن هناك من يطرق بيتها ومن يدخل ومن يخرج، لما تجرأ عليها الليل، وسماها فتاته. أيضا سهرانة، وكانت صديقة نزوات لرجل متمكن أو مقرب من القصر، كما يبدو، وأراد أن تنتهي تلك الصداقة على يدي.
قلت فتاة آسرة، أوقفها ديباج، في حوش البيت الصغير، ووقف بجانبها يردد: سنزوجك من مبروكة يا مرحلي، هذه غسيل ناعم للكوابيس، ستزيلها تماماً، وفي ليلة واحدة، ماذا تقول؟.. هل قبلت؟

* فصل من رواية بعنوان «الجزء المؤلم من الحكاية» للكاتب السوداني المعروف تصدر في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل