عزيزي علي الوردي... لو تدري ماذا حلّ بـ «الشخصية العراقية»! | في كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي»، ركّز الوردي كثيراً على توصيف ما تعنيه البداوة داخل المجتمع العراقي، فأخذ يصنع لهذا المجتمع تمييزاً أو ثنائية من قبيل «بدوـ حضر»، أو بصورة أدق «بداوة- حضارة». بمعنى أن المجتمع العراقي ومنذ زمن ليس بالقصير يتصارعه صنفان. صنفٌ ما قبل مديني وصنفٌ آخر بظلال مدينية.
كان الوردي يذهب إلى أن ما قبل المديني يُبقي سقف الهوية الوطنية منخفضاً، ويجعله عارياً دون المقدرة على بلوغ مراقي التعدد والتنوع. إن وصف الخفض ينصرف إلى هيمنة الجماعات المحلية العشائرية والمذهبية، والتي كان الوردي يقول عنها؛ إنها المادة الأولية المُتغلبة في المجتمع العراقي. أما المدنية المأمولة، فما هي إلا تمثيل فوقي لم يتحقق في الواقع بعد. قد يبدو هذا الكلام صائباً لمَّا نفهم طبيعة الهويات الفرعية وهي تخرج من عباءة التقليدية الإدارية العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر، لتدخل ضمن نمط تحديثي مغاير للإدارة تبنته الدولة العراقية في عشرينيات القرن المنصرم، أي مسعى الدولة الكولونيالية الجديدة في أن تكون بأطر مؤسسية عصرية، وتقوم على مُدرَك إبدال الهويات الفرعية بهوية جامعة، فتكون الهوية الوطنية الخيار البديل عن الهويات الفرعية الدنيا.

النخبة السياسية في 2003 راحت تنبش قبور الهويات الأولانية

والواقع، في حينها، أن أفراد الهويات الفرعية كانوا أنفسهم ينتقلون جادين نحو ما هو مدني، فسعوا للتخلي عن التماثل لجهة الاختلاف، وراحوا ينبذون الضغائن والاحترابات لمصلحة الاعتراف، أي نظروا إلى ما هو أرحب من فكرة الانكفاء على الذات. كما أنّ النخبة الوطنية العراقية نفسها في ذلك الوقت، ما كانت منفصلة عن هذه البنى الأولية، أو غريبة عنها، فأفرادها يتحدرون من جماعات عشائرية ومذهبية، بل هم من سنخها، غير أنّهم تطلعوا إلى ما هو مديني، وإلى إمكان قبر ما هو عشائري ومذهبي، فتحصلوا معارفهم، وهذّبوا حواشيهم ليواكبوا مسعى الدولة الجديد نحو التمدين والمدنية، منطلقين من مبدأ أن العشيرة والقبيلة الأصل لنشوء القومية في التاريخ.
على هذا الأساس، وُسِم الجسد الثقافي المحلي العراقي، في بعض من فتراته التاريخية، بملامح مدينية متفرقة، لكنها كانت ملامح «حُلمية»، ترنو إلى النهوض بعراق مدني، برغم الارتكاسات التي يكابدها.
والواقع أنه لم يكن ليتسنى لهذه الملامح أن تتثبت بسبب قصر دورة التمدين نفسها، وشكلية حضورها الوظيفي في الثقافة المحلية. فحدث أن تشكّلت هذه الملامح التمدينية النادرة فرادى، إذ لم تكن في أحسن الأحوال سوى جزرٍ وسط فضاء غامر بالولاءات ماقبل المدينية.
ولكن إذا ما أردنا إجراء مقاربة منهجية لتصورات علي الوردي القديمة مع ما يجري في الوقت الحاضر، فسنجد أن وصف البناء المؤسساتي بعد 2003 (الدستور والإرادات الشعبية المتعارضة والتشريعات والأجهزة الإدارية والأدبية)، قد بلغ من التعقيد والتفصيل الداخلي أكثر بكثير مما كان في بدايات تأسيس دولة العشرينيات من القرن المنصرم. مثلما سنجد المظاهر التمدينية المادية أوفر على الناس في تجربتهم الحياتية سواءً في الملبس أو في المسكن أو في التحصيل العلمي والوظيفي.
ومن ثم، يبدو ما كان يقوله الوردي مناسباً فقط للحقبة التي كان يعاين فيها تلك التكوينات الفرعية (العشيرة أو الطائفة) على أنها ملاذات أولانية ليست إلا. فالعشيرة التي هي بنية أولية والتي كانت عنده لا غرض لها بالسياسة إلا من بعيد، أصبحت في ما بعد 2003 أساساً في الدعم السياسي المقترن بمصلحة داخل السلطة الحديثة (حضور العشيرة في التعبئة الانتخابية، وعملها كبنية عضوية داخل السلطة). والطائفة بالمعنى الطقوسي والاجتماعي والفقهي التي يشير الوردي إليها (في اللمحات) مراراً، أصبحت تتحرك في مجال سياسي طائفي وطوائفي متغوِّل بالكامل اليوم. معنى ذلك إنّ النخبة السياسية في 2003 راحت تنبش قبور الهويات الأولانية، وتعمل على إحيائها من جديد لجهة جعلها هي الدولة وليس غيرها، فانتعشت الطوائفية وتقلص نطاق البنى المنفتحة على التعدد والتنوع.. والناظر إلى الدولة الحالية بمؤسساتها ومبانيها، سيجد كامل قوامها بنية مذهبية وعشائرية بامتياز.
والواقع إننا نحتكم في هذا السياق إلى منهجيتين: الأولى، تتعلق بغايات الإنشاء، والثانية، تتعلق بغايات التفتيت. الأولى كانت رغبة في البناء عمل عليها البريطانيون في عشرينيات القرن المنصرم، فأتتنا بدولة الملك فيصل في عام 1921، والثانية كانت رغبة في التفتيت عمل عليها الأميركيون في مطلع القرن الحادي والعشرين، فأجهزت على المبنى السابق، ومكَّنت نوعاً من الكيانية المستند الى بنى تجزيئية أولانية. وبالتالي، فإن الفرق ما بين المبنى الاجتماعي للوردي والمباني السوسيولوجية الراهنة، فرقٌ منهجي بدرجة كبيرة أكثر منه تناولاً مشتركاً تبسيطياً للمكونات ذاتها: العشيرة والمذهب والمنطقة والمحلة.
معنى ذلك أن السعي في الماضي كان يتجه نحو تذويب الهويات الفرعية. أما السعي الآن، فينكص لتنشيطها وإنعاشها وتمكينها وإيقاظها من سباتها. الأمر الذي فسح المجال لصعود نسالة اجتماعية شعبوية بمرجعيات نافرة ومتشامخة على ما سواها.. ما جعل من أفرادها - كشرائح اجتماعية - يحتفون بـ «المأثورات العُرفية»، ويتشوفون إلى مقامات الوجاهة بصورها الأولية، وينشغلون كأولوية في إيديولوجيا عملهم السياسي بإشاعة الأعراف والسُنن المحلية داخل المدينة. ومن ثم تصبح أعرافهم بحكم التكرار والاستمكان عناوين السلطة السياسية العليا وموضوعاتها الرئيسة. فتراهم يحتلون منصات التمثيل الرسمي: أكاديميون ورجال أعمال تُغويهم النفعية الوظيفية السافرة، وزعماء أحزاب وسياسيون مؤدلجون بأيديولوجيا دينية شعبوية، ومثقفون وإعلاميون يبتدعون لغة متدنية للفرجة، ممكنة التداول، فيؤلفون نظاماً علاماتياً خاصاً بهم؛ لحراسة القيم والسيطرة الاجتماعية الجديدة، ويدافعون من منظورهم عن قضايا ذات سمة أخلاقية وسياسية تتوسل مراقي القبول والإجماع في «معارك استملاك المجال».
* باحث وأكاديمي عراقي