عزيزي علي الوردي... لو تدري ماذا حلّ بـ «الشخصية العراقية»! | لم يحظَ مفكر عراقي بمثل ما حظي به الوردي من اهتمام. فقد بقي من فكر الوردي أشياء وأشياء، وما زال فاعلاً في معرفة الشخصية العراقية وحتى العربية، ومنها تأكيده على عمق الصراع الطائفي في العراق واستمراره باستمرار الصراع الإقليمي، ولا سيما بين تركيا «السنية» ومؤيدي سياستها، وإيران «الشيعية» ومؤيدي سياستها، وانعكاسات هذه «الحرب الباردة» ــ والتي بدأت بالسخونة ــ على تشتت العراقيين وضياع وطنيتهم بالولاء لهذه الجهة أو تلك. نحن نعتقد أن قيمة فكر الوردي ليست في جرأته فقط، وإن كانت هذه سمة مهمة للمفكر والكاتب، لكننا نجد أن قيمة الوردي تكمن في صياغته لفرضياته وصناعته لمفاهيم جديدة وتبيئته لمفاهيم أخرى (مستمدة من الفكرين «التراث» أو «الحداثة») أثبتت قدرتها التفسيرية في معرفة المجتمع العراقي.
حين نريد أن نكتشف أهمية كاتب ما يستحق أن تُطلق عليه صفة مفكر، علينا البحث عن منتجه المفاهيمي أولاً، ومساعدة القارئ على الكشف عن القدرة التفسيرية لهذا المنتج المفاهيمي اليوم ثانياً، وتسهيل إمكانية الإفادة من توظيف منتجه المفاهيمي بوصفه عدة منهجية للباحثين في معرفة خط سير المجتمع العراقي أو أي مجتمع آخر ثالثاً.

موضوعة الصراع بين القديم والجديد من أهم الآراء التي طرحها قبل كثير من المفكرين العرب

نظريات الوردي ومنتجه المفاهيمي هي التي تدعونا لأن نتعامل معه بوصفه مفكراً، وهذه واحد من الأمور التي تجعل فكر الوردي حيوياً، فحينما يكون المنتج المفاهيمي لمفكر ما مرتكزاً تفسيرياً لفهم ظاهرة مجتمعية أو فكرية، فهذا يعني أن هذا الفكر قدم ما هو جديد ومفيد على صعيدَي العلم والحياة.
ولأن بُعد المفاهيم الأهم يكمن في كونها منتجاً نظرياً تصورياً، يحاول ذوو الاختصاص التطبيقي توظيفه في بحوثهم الإجرائية. لذا وكما نعتقد، فأفكار الوردي بقيت أقرب إلى الرؤية الاستقرائية ذات البعد الاستنباطي الافتراضي، شبيهة بمنهج التكذيب البوبري الذي يضع الكثير من الفرضيات ومن ثم السعي إلى تفنيدها واحدة تلو الأخرى، والفرضية الأكثر صموداً أمام النقد هي الأقرب إلى الحقيقة. لذا أبقى الوردي على فرضياته الثنائية الثلاث «البداوة والحضارة» و«ازدواجية الشخصية» و«التناشز الاجتماعي». اعتقد أنها هي الأكثر صموداً من فرضيات أُخر. ويمكن أن يكون هذا البعد النظري لفرضيات الوردي ومنتجه المفاهيمي، هو الذي جعله يعتقد بأنه صار بمقدوره معرفة شخصية الفرد العراقي، وهو الذي دفعه إلى رفض الطريقة الاستبيانية والإحصائية في الكشف عن طبيعة العراقي، لأنه يعاني من «ازدواجية الشخصية»، فبالتالي حينما يُعطى الاستبيان الإحصائي، فإنه سيُظهر شيئاً في جوابه ويُضمر أشياء وأشياء.
لخص الوردي هذا النزاع المفاهيمي بأنه نزاع بين «المحافظين والمجددين»، وعدّ هذا الصراع «ظاهرة اجتماعية» في كل زمان ومكان، إنما تختلف شدة وضعفاً حسب اختلاف الظروف، وطبيعة الناس العامة تكون ضد الجديد لأنه سيغير كثيراً من تقاليدهم وعاداتهم وقيمهم التي اعتادوا عليها وظنوا أنها قيم ثابتة وهي القيمة الحقيقية وغيرها خاطئ. ولربما عدّوا من يأتي بالجديد «زنديقاً» و«كافراً»؛ لأنه مبتدع لشيء جديد لم تعرفه الأمة من قبل «وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». لنعط القارئ مسحة سريعة لبعض المفاهيم والأفكار التي اشتغل عليها الوردي:
1ـ نقد المنطق الأرسطي لابتعاده عن الواقع
2ـ نقد الفكر الديني و«وعاظ السلاطين»، ولا سيما في استغراقهم في المباحث الفقهية ونقمتهم المستمرة على كل معطيات الحضارة الغربية ونقده لسكوتهم عن انتقاد الإفراط الشعبي في التعبير عن طقوسهم وشعائرهم الدينية وإفراطهم في التعكز على «مبدأ الشفاعة» الذي صار طقساً تعبدياً كأنه هو الوسيلة الأهم لدى عامة الناس للغفران ومسح الذنوب...
3ـ نقده للتناشز الاجتماعي بين الحقوق والواجبات والتناشز بين الرجل والمرأة، ونقده أيضاً للتناشز بين عدد المتخرجين الكثيرين وسعة الدوائر الحكومية، وكذا للتناشز بين دعوى الانغلاق الديني وتحولات الحداثة عند الجيل الجديد...
4ـ نقده لتأثر المجتمع العراقي بـ«المد البدوي» وشيوع فكرة «العصبية» البدوية ليس عند القرية وعند أبناء الريف فقط، وإنما في المدينة وعند الحضر في المحلة والبلدة والمدينة...
5ـ نقده لـ«العصبية الطائفية» لأنها لا تقوم على الانتماء الديني بقدر ما هي «عصبية اجتماعية»، إذ ممكن أن تجد من هو متعصب لطائفته لكنه ليس متديناً. وبالتالي ستتحول إلى نوع من «التنويم الاجتماعي» يشبه «التنويم المغناطيسي» حيث يخضع الفرد لإيحاءات المجتمع وتأثيراته منذ طفولته. وبالتكرار تصبح عنده أفكار الجماعة التي يعيش معها كأنها الحقيقة المطلقة. فتؤطره بـ«إطار فكري» أو «سياج عقائدي» أو «قوقعة فكرية»، ما يجعله غير قادر بسهولة على تقبل ما هو جديد أو مغاير لما اعتاد عليه من قيم اجتماعية وأنماط عقائدية. لذا يكون مثل هذا الفرد خاضعاً دوماً لسلوك الجماعة يحركه «الحماس الجمعي» الذي يلهب المشاعر ويجيش العاطفة، وتُلغى فيه الذات لمصلحة الجماعة.
ربما تكون موضوعة الصراع بين القديم والجديد من أهم الآراء التي طرحها الوردي ونبه لها قبل كثير من المفكرين العرب، الذين كتبوا عن: «تجديد الفكر العربي» و«التراث والتجديد» و«التراث والحداثة». وهذه الكتابات تبدو أغلبها حول الكشف عن قصة النزاع أو الصراع بين «السلفيين» أو «الماضويين»، «التراثيين» أو «المحافظين» وبين «الحداثيين» أو «المتفرنجين» أو «التغريبيين» أو «العصرانيين». وعلى الرغم مما يبدو في هذه المفاهيم من تقابل أو تناقض، إلا أن هذا التصور ليس دقيقاً لأن من الحداثيين من يستفيد من التراث، ومن التراثيين من يسعى إلى الإفادة من الحداثة. وهناك من يرفض الحداثة وآخر يرفض التراث. وإذا أمعنّا النظر في هذه الثنائيات «التراث/ الحداثة»، «الأصالة/ المعاصرة»، «الموروث/ الوافد»، «القديم/ الجديد»، نراها قريبة إلى حد كبير من فرضية الوردي الثنائية: «البداوة/ الحضارة» التي تشكل ثنائية أو «ازدواجية الشخصية» التي تشترك بثنائية أخرى هي «التناشز الاجتماعي» الذي يحصل نتيجة الصراع بين دعاة الأصالة ودعاة المعاصرة أو بين دعاة العودة إلى القديم: إلى التراث أو الموروث وبين دعاة الحداثة أو الوافد. وهذا الصراع يظهر نتيجة اطلاع بعض أفراد المجتمع على التحولات التقنية والمعلوماتية، وبين ما هو عليه مجتمعهم من ركود وسبات. من هنا، يبدأ هؤلاء المجددون في الدعوة الصريحة إلى التخلي عن القيم والتقاليد القديمة ومحاولة اللحاق بالتقدم الذي حدث في بلدان الغرب ليس في التقنية والمعلوماتية فحسب، بل في أنظمة الحكم السياسي التي تحولت من الاستبداد الفردي أو حكم الأقلية «الأوليغارشية» إلى العقد الاجتماعي وحكم الأغلبية السياسية.
* أستاذ الفلسفة والفكر العربي المعاصر ــ الجامعة المستنصرية