ينقل الكاتب المصري أحمد مجدي همّام في روايته «عيّاش» (دار الساقي) حال المجتمع المصري، عبر حكاية صحافي يمثل صعودهِ إلى الذروة ثمّ انهياره إلى الحضيض، لا آلية سردية لبناء الحكاية فحسب، إنّما طريقة يخبرنا الكاتب فيها كيف يبني الفساد أبطاله ثم يحطمهم بما صنعوا. يعاني عمر عيّاش بطل الرواية من عقدتين جنسيّة ومهنيّة. تبنى الحكاية بدءاً من هاتين العقدتين، ويسير السرد متوازناً في هذين الخطين، يتصاعدان سويّة، ويخفتان سويّة. ولا يعرف القارئ أيهما تقود الثانية. إذ تبدأ الرواية بشخصية مكتملة وناضجة. لا يتراكم وعيها أو يُختبر، بل يتجسد على نحو متوازنٍ في أحداث متصاعدة. تحتدم وتنفرج، بشكل متواتر وبلغة تشبه روح النص. إذ يبدو خطاب عيّاش فصيحاً ومتملقاً أحياناً، وبذيئاً رافضاً أحياناً أخرى. لغته متدفقة وسرده سلس ومنطلق، لربما لغة الرواية هي أكثر ما يشد قارئها إليها، إذ تخرج من النص ولا تفرضُ عليهِ. يسند همّام لعيّاش رواية حكايتهِ. يبدأ مستكتباً حراً لدى عدد من الجرائد، يشكو ضائقة ماديّة دائمة، ويعمل في مكتب للاستيراد بإشراف مدير مثلي، لا يرغب بعيّاش بسبب سمنتهِ، لكنه يكدر أيامهُ، يستغل تعبه ويتصيّد هفواتهِ، يرفض زيادة أجره ويدفعه إلى سلوك يسلكه الأنذال.

إذ يستغل عيّاش الهاتف في المكتب لإجراء مكالمات دوليّة مع أخته في أميركا، التي أخذت والدتهما إليها بعد وفاة أبيهما بأشهر عدة. يجري عيّاش مكالمات مع عدد كبير من الصحف والمواقع. ما أن يُوفّق بالعمل لدى إحداها، حتى يترك المكتب للدكتور العجماوي مرتباً عليه فاتورة هاتفيّة تفوق الزيادات التي كان يرجوها.
ينتهي تقديم البطل لنفسهِ عند هذا الحد. يتشكل لدينا انطباع كافٍ لسلوكهِ الانتقامي، إضافة إلى الإشارة إلى سمنتهِ وإلى الشك المتواصل برجولتهِ، الذي يعود إلى حادثة في المراهقة. يؤهلنا الكاتب على نحو جيد لدخول عالمهِ الروائي. في فصل البدايات يواصل عيّاش سرد حكاية صعودهِ في الجريدة. يعمل محرراً، ويتابع المباريات مع رجال الأمن في الجريدة. تنشأ عداوة بينه وبين زميله في العمل، يتقرب عيّاش على إثرها من اللواء ويعمل لصالحهِ بعدما لفت الأخيرَ إليهِ. ثم يعمل لصالح رئيس التحرير في حملته الانتخابية، ويُرفّع من دون مقدمات إلى منصب مدير التحرير. على الجانب الآخر، تدخل نورا، بالمصادفة، حياتهُ من جديد. تمنحه القبلة الأولى، ثمّ تسرقهُ، قبل أن تعود إليهِ وتشرف على تعقيم جرحهِ. منتظراً شفاءه كي يعود إلى حياة المخبرين، يعيش حبّه في الظلّ وينفجر كبته الجنسي مع نورا، أو تُفجر ذلك الكبت كي تصطادهُ من خلالهِ. يتابع هو اصطياد زملائهِ في العمل واحداً بعد الآخر. راح عيّاش يبني مجدهُ على تحطيم حياة الآخرين. ويعتاش على ما يقدمه جسد نورا، بعد فشلهِ المخزي معها، لتظهر عقدته الجنسيّة محركاً لسلوكهِ، قبل أن تعود العداوات في الجريدة إلى الواجهة. بنجاح رئيس التحرير في الانتخابات، يبدأ عصر ذهبي ينذر باقتراب سقوطهِ. يتم تعيينه في إحدى اللجان الوزارية وتفتح أسرار نورا الجسدية عليه، ما يجعلنا نعتقد باقتراب خسارتها. يعرض عليها الزواج وتشجعه والدته على هذه الخطوة... الوالدة التي تختفي لتظهر مع مفاجآت جديدة أكثرها قسوة، زواجها في أرزل العمر. يترافق ذلك مع انهيار شامل يصيب حياة عيّاش. تنكشف مؤامراته على أصدقائهِ، تفشل العملية الجراحية، يصير نجماً فيسبوكيّاً بفضائح رنانة. ويبدأ لملمة هزائمه بالجملة، إلى درجة لا يعتقد أنّه معني بها.
يعتمد الكاتب على مشاهد صادمة في انتقالاتهِ.

يعتمد الكاتب على مشاهد صادمة في انتقالاتهِ
لكن في الوقت ذاتهِ، يلفت القارئ برود عيّاش إزاء المواقف الانفعالية. إنّه يحطم خصومه ببرود. ويشتاق إلى نورا من دون أن يتمتع بلذة الانكشاف أمام الحبيب. مشهده في المصعد، وهو ينفث دخان سجائره إلى وجوه زملائهِ، يلخص هذه الشخصية التي برع الكاتب في تصويرها. ومشهد فشله الجنسي الأول أمام نورا بدا مخزياً على نحو مدوٍّ. أما المشهد الذروة الذي يجسد لنا هزيمة الرجل ومهانتهُ، فهو الصفعة التي يتلقاها من والد أحد زملائهِ الذي توفى في أحداث رياضيّة بعدما وقف وراء فصلهِ من العمل، إذ كيف للرجل أن يستقبل «من خان ابنهُ؟».
بينما كان عيّاش يبني حياتهُ بأسلوب يؤخذ دلالة على أزمة اجتماعية وثقافية أكثر شمولاً، كان يفكر بنورا على نحو جاد. كانت تفكك ما يبنيه، بأسلوبهِ ذاتهِ. يلفت القارئ العلاقة التي تجمع عيّاش مع والد أول ضحاياه، إذ برز وجه عيّاش الضائع والمتملق. لقد أودى بمصير الابن وراح يلتمس قرب الأب. بقيت الكرة شغفه الذي لم ينطفئ خلال النص. حتى أنّه يحتال لتأخير القذف عبر تشتيت تركيزه بتحليلات كروية، نجدها قراءات معرفية لدى هنري ميللر في «مدار الجدي». لكن مجدي همّام بقي وفياً لبطلهِ، لا يفرض سلوكاً ولا يجعلنا ننتظر مفاجأة منهُ. يواصل عيّاش تعرية ذاتهِ في الصفحات، كما لو أنّه بتلك التعرية الفاضحة لنفسهِ، كان يسعى لإدانة الآخرين.