الكاتب، وهو أستاذ مؤسس لفرع التشريعات القياسية القومية والأجنبية في كلية القانون في «جامعة يل»، يبيّن من خلال قراءة متعمقة لقوانين الفصل العنصري في ألمانية النازية أنها ارتبطت إلى حد كبير بقوانين الفصل العنصري في الولايات المتحدة. الأخيرة شكلت المرجع للمشرعين النازيين الذين وضعوا قوانين دولتهم ضمن إطار ما يعرف بـ «تشريعات نرمبرغ» Nürnberger Gesetze أو «التشريعات الآرية» Ariergesetze العنصرية التي أنجزت في الخامس من حزيران (يونيو) 1934، أي بعد نحو عام من فوز حزب هتلر النازي في الانتخابات النيابية العامة، وبوشر العمل بها في 15 أيلول (سبتمبر) عام 1935 حيث تمت مأسستها بموافقة مجلس نواب الإمبراطورية [الثالثة] (الرايخستاغ/ reichstag) عليها بالإجماع.
هدف تلك التشريعات العنصرية كان «حماية الدم الألماني» و«حماية الشرف الألماني»، والمقصود هنا من «اليهود»، علماً بأننا لا نقبل هذا التعريف الجامع لذلك نضعه بين معترضتين.
كان اليهود الألمان عندئذ قد اندمجوا على نحو كلي في المجتمع الألماني، فصاروا ألماناً يهوداً، وكان هناك تزاوج على نحو واسع بينهم وبين مسيحيي ألمانيا، مما عنى وجود مشكلة قانونية في كيفية تعريفهم وفق ذلك التشريع، وهو ما حير المشرعين النازيين الذين أسهموا في صياغة تلك القوانين ومنهم وزير العدل النازي فرنتس غرتنز وغيره، فاستعانوا بتشريعات واشنطن ذات الصلة بالتشريعات الأميركية، وهو ما يوضحه الكاتب على نحو مفصل.
اندماج الألمان اليهود في المجتمع الألماني، قاد المشرعين النازيين إلى تقسيم يهود بلادهم إلى «يهود كاملين» و«أنصاف يهود» و«أرباع يهود»، وشرعنة قوانين الزواج أو منعه بين مختلف «اليهود!» والألمان «الصافين عرقياً» Deutschblütige.

«جِم كرو»
تعبير ازدرائي مقصود به ذوو البشرة الملونة/ السوداء
هذا التقسيم بدا ضرورياً للمشرعين الألمان في ظل حقيقة أنه لم يعد ممكناً معرفة سوى قلة قليلة من «اليهود» من خلال المظهر الخارجي. ذلك أن عملية التحرر emancipation كانت قد اكتملت قبل عقود كثيرة.
هدف هذه التشريعات ــ دوماً وفق الكاتب ــ لم يكن إبادة «اليهود»، وإنما فصلهم عنصرياً ودفعهم لمغادرة البلاد والهجرة، إلى فلسطين أو إلى غيرها، وهو تماماً هدف الحركة الصهيونية. هنا لا بد لنا من استحضار قول عالم اللغوي الألماني «اليهودي» فكتر كلمبرر، الذي كتب في مؤلفه الفذ «لغة الرايخ الثالث/ LTI»، أن هتلر تعلم لغته العنصرية من تيُدر هرتسل. ولولا الأخير لما وجد هتلر، والتعليق هذا لنا.
لم يقبل المشرعون الألمان صياغة تشريعات من الهواء، وكانوا يرفضون الخضوع لضغط الشارع النازي الذي كان يطالبهم بوضع قوانين لـ «حماية صفاء العرق الآري». وهو ما حصل أيضاً في «ليلة الخناجر الطويلة».
هتلر شخصياً أعرب في مؤلفه «كفاحي» عن إعجابه ببعض جوانب سياسات واشنطن ومنها التشريعات العنصرية وحملة التوسع غرباً لإقامة «مجال حيوي» lebensraum، وقد وظفها النازيون لشرح توسعهم في شرق أوروبا. إضافة إلى ذلك، وجب لفت الانتباه إلى إطرائه لما عرف بالصفقة الجديدة The New Deal المعروفة باسم الصفقة الفاشية الجديدة (the fascist new deal) التي أعلنها الرئيس الأميركي روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد أتت بضغط من القوى اليمينية العنصرية الجنوب أميركية. في المقابل، امتنع الرئيس روزفلت عن إدانة عنصرية النظام النازي قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939. إضافة إلى ذلك، يوضح الكاتب، أن هتلر امتدح في مؤلفه آنف الذكر قيام الأميركيين بإبادة الملايين من ذوي البشرة الحمراء!
الولايات المتحدة، التي كانت في ذلك الوقت دولة عنصرية (جِم كرو ساوث/ jim crow south)، وألمانيا النازية، كانت كل منهما تبحث عن صورتها في الأخرى. «جِم كرو» تعبير ازدرائي مقصود به البشر من البشرة الملونة/ السوداء. في الوقت الذي كان فيه الرعاع يلاحقون «اليهود» في ألمانيا، كان أمثالهم في الولايات المتحدة يلاحقون البشر سود البشرة people of colour ويقتلونهم. المشرعون النازيون طرحوا إمكانية استحضار «جِم كرو» وتطبيقه في ألمانيا كونه يشكل أرضية قانونية لتشريع فصل «اليهود» عنصرياً.
يلاحظ الكاتب مفارقة مفجعة هي أن المشرعين النازيين رفضوا بعض التشريعات العنصرية الأميركية كونها «أقسى من الضروري»! والمقصود هنا في كيفية تعريف «العبد» neger في التصنيف العنصري الأميركي والمعروف باسم «قاعدة ولو قطرة واحدة» one drop rule، أي عد أي شخص في دمه ولو قطرة دم واحدة تعود إلى شخص من منطقة جنوب الساحل «الإفريقي» «عبداً» ويحظر التزاوج معه، مما جعل من واشنطن الرائد في التشريعات العنصرية. هذا الرفض دفع المشرعين النازيين إلى التصنيفات: «يهودي كامل»، «نصف يهودي»، «ربع يهودي»!
يضاف إلى ما سبق، تعلم النازيين برنامج «اليوجينيا - تحسين النسل» eugenics من زملائهم عبر الأطلسي. تثبت المراجع ـــ دوماً وفق الكاتب ــ أنه كان هناك تراسل نشيط بين الطرفين بالخصوص امتد حتى أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم. بالمناسبة، القوانين العنصرية وبرامج اليوجينيا آنفة الذكر كانت مشرعنة، إلى حد ما، حتى في المملكة المتحدة، وبالتالي في مستعمراتها، إضافة إلى كندا وأستراليا ونيوزيلاندا، والتعلم من جنوب إفريقيا.
شكّلت الولايات المتحدة أيضاً المرجع في سنّ تشريعات تخلق درجتين من المواطنة (citizenship)، حيث ميزت الأميركيين البيض (WASP) عن الصينيين والفلبينو واليابانيين والبشر الملونين وغيرهم. لذا نجد في التشريعات الألمانية المواطن الألماني (مواطن الإمبراطورية = الرايخ/ reichsbürger) والمواطن من التبعية الألمانية (staatsangehörige)، وغير ذلك من التصنيفات العنصرية.
النقاط التي عرضها الكاتب أكثر من أن تتسع لأي عرض. لذا نتوقف الآن ونوصي القارئ بالعودة إلى هذا المؤلف الفريد، رغم عدم اتفاقنا مع بعض النقاط التي طرحها عبر صفحاته.