«أنا شاب بحريني، أحببت وطني كما أحب أمي، وكنت أظنهما شيئاً واحداً، فالوطن هو حيث يكون المرء في خير كما يقال، وأنا أكون بخير طالما أنا في حضن أمي».جهاد

ماذا يريد السجين السياسي؟ يريد كسر إرادة إذلاله، وهذا ما أراده جهاد، أحد معتقلي سجن «جو» المركزي في البحرين. لقد كتب جهاد روايته عن أحداث 10 آذار (مارس) 2016، بهدف كسر الإذلال الذي تفنّن في تجريعه إياه الدرك الأردني وقوات الشغب والأمن والمخابرات من البلوش والباكستانية واليمنيين والبحرينيين.
في روايته «جَوْ ـــ عذابات 10 مارس في سجن جَوْ» (مركز أوال للدراسات والتوثيق)، أراد جهاد أن يداوي جرح كرامته وكرامة 1004 من سجناء «جو». من السجن ذاته الذي لا يزال فيه، كتب جهاد أوّل كلمة في هذه الرواية في 10 شباط (فبراير) عام 2016، وآخر كلمة منها في اليوم العالمي لحرية الصحافة والإعلام في 3 أيار (مايو) من العام نفسه. وسط حالة الترقب والترصد والبحث عن مكان موارب وسط ضجيج السجناء واكتظاظهم، ظل جهاد يكتب روايته طوال 84 يوماً، ويهرّبها أوراقاً متناثرة. استهلك عشرة أقلام حصل عليها بشكل متقطع، وبصعوبة شديدة. أما الأوراق والدفاتر فكانت نادرة الوجود، ولا تتوافر في دكان السجن دائماً، ما يتطلب الانتظار. في المحصلة، احتاج إلى 5 دفاتر، ليكتب هذه الرواية التي صدرت أخيراً.

في رواية اليوم الأول من أحداث 10 مارس الشهيرة، يروي جهاد لنا أحد مشاهد الإمعان في الإذلال. في منتصف الليل، يتقدم الوكيل يوسف إلى منتصف ساحة السجن الخارجية، قائلاً: الآن أريد أن أسمع منكم صوتاً يهزُّ المكان بترديد شعار «عاش عاش بو سلمان (ملك البحرين)»، «عاش عاش من؟!» ردَّ بعض الذين كانوا قربه بصوت منخفض: «بو سلمان». صرخ الوكيل: «ما هذا الصوت! أريد أن أسمع الجميع يُردِّد، وإلَّا سألقّنه درساً لن ينساه».
ضجَّ الناس خوفاً من إرهابه بترديد الشعار، وهو يصرخ فيهم: أعلى أعلى! هم أرادوا من ترديد الشعار كسر عزيمة المعتقلين السياسيين وإذلالهم لمعارضتهم النظام والملك، ولكن الشعار تحول إلى مناسبة للسخرية والضحك، فبعض السجناء كانوا يقولون بصوت منخفض جداً: مات... مات. ثم يرفعون صوتهم بقول: بو سلمان. والبعض الآخر كانوا يقولون: عاش عاش علي سلمان، قاصدين بذلك زعيم المعارضة والأمين العام لـ«جمعية الوفاق». كانت هذه الأصوات لا تُسمع مختلفة عن الأخرى بسبب الصوت العالي والمساحة الكبيرة والصدى، وقد تعمَّد السجناء فعل ذلك، لأنَّه لا بُدَّ من أن تردّد شيئاً أو تحرك شفتيك.
كان هذا أحد أشكال المقاومة ومحاولة كسر إرادة الإذلال، لكن موجة العنف كانت أبشع من أن تتمكن أجساد السجناء من تحملها. خفتت أصواتهم مع تعاقب نوبات التعذيب عليهم طوال ثلاثة أشهر ليلَ نهارَ، وظلت أرواحهم تغالب الانكسار وتشد بعضها بعضاً.
في نهاية الأسبوع الثاني من أحداث 10 مارس، أوقف الوكيل الأردني السجناء في برد الليل القارس عراة إلا من سراويلهم، يرافقهم وكيل أردني آخر، يحمل خرطوم ماء أخضر انتزعه من أحد الحمامات، وراح يلوّح به في الهواء: «الكل يشلح أواعيه».

كان بعض السجناء يردّدون بصوت منخفض جداً: مات مات بو سلمان

كان أفراد من الدرك الأردني واقفين عند حنفية ماء الشرب البارد، يملأ أحدهم دلواً من الماء. لحظات وصرخ على سجين نصف عار: على بطنك على الإسفلت البارد، ثم قام بسكب دلو ماء بارد على جسد السجين العاري، فانتفض وارتجف مثل سمكة تحتضر أُخرجت للتوّ من الماء! بعد ذلك، أمره بالتدحرج على الإسفلت والوحل مسافة 10 أمتار تقريباً إلى زاوية الخيمة، ثم أمره بسكب الماء على زملائه السجناء، جاعلاً أحد أفراد الدرك الأردني حرساً على رأسه، هكذا استمرت الحفلة. كان جهاد في هذه اللحظات، يسأل نفسه مقهوراً: لماذا نستجيب له؟ لماذا لا نعصي أوامره؟ فباغته الوكيل بخرطومه الأخضر على جسده العاري، صار يتلقاه بصمت، فالبرد أفقده الإحساس بالألم وبالماء البارد. يخبرنا برتران بديع في كتابه الصادر حديثاً «زمن المذلولين... باثولوجيا العلاقات الدولية» أنّ الإذلال يقوض العلاقات بين الدول، وبين الدولة ومواطنيها، وهو يعبر عن حالة تحتاج إلى تشخيص مرضيّ (باثولوجيا).
طاقم المعذبين الذين يستعينون بشعارت الطاغية لإذلال المواطنين، يعبرون عن سلطة مريضة نفسياً، تعاني من حالة باثولوجية، فتُنَفس عن مرضها بإذلال مواطنيها، ويتحولون إلى ضحايا، منهم من تذلّهم بالتمييز، ومنهم من تذلّهم بما تمنّ به عليهم من مكرمات، ومنهم من تذلّهم بالاستجداء، ومنهم من تذلّهم بتحويلهم إلى موالاة عمياء، ومنهم من تُفقدهم الحياة الكريمة، فيموتون أحياء. جهاد ليس بخير، فوطنه ليس بخير، وأمه لا تزال تنتظر أن يأتي الخير في صورة وطن يجمعها بابنها، لتلملم جروحه الكثيرة.
* كاتب بحريني