■ موضوع العروض وبحور الشعر آخذ في الاختفاء من ساحة النقاش الثقافي في أيامنا، ربما كان ذلك بتأثير انتشار قصيدة النثر وابتعاد الشعراء عن «الأوزان الخليلية»، فما الذي يدفع موسيقياً مثلك إلى إرجاء أبحاثه حول المقامات والتحول إلى بحث إيقاع الشعر العربي، وهو علمٌ يؤول إلى الاختفاء؟ بكلمات أخرى: من، في عصرنا، هو القارئ المستهدف لهذا الكتاب الواقع في 900 صفحة؟صحيح أنني كنت أعمل على بحث شامل حول المقامات المشرقية، وهي الأخرى على حافة الاندثار. توقعي الشخصي أن تختفي المقامات الشرقية تماماً من فضائنا النغميّ خلال خمسة أعوام.

قد أكون متشائماً، وأتمنى لو أكون مخطئاً. مع ذلك، قررت أن أخصص جهداً لفهم وشرح نشوء وتطور هذه الأبجدية النغمية العريقة، على الأقل لوجوب تعريف أجيالنا الناشئة بمقاماتنا التي كانت ولم تعُد. أثناء دراستي لتأثيرات موسيقى الإغريق على موسيقانا العباسية، وصلت الى أوزان الشعر الإغريقي؛ من ثمّ اكتشفت، ببالغ الحرج، أنني أكاد لا أعرف شيئاً عن جوهر المنطق الإيقاعي الذي يحكم شعرنا العربي. منذ تلك اللحظة، خصصتُ سنتين ونصف السنة لبحث وتفكيك أبجدياتنا الإيقاعية من أوائل المعلقات حتى أواخر الأهازيج في شعرنا اليوم. والهدف، مرةً أخرى، إعطاء أنفسنا فرصة التعرّف كما يجب إلى هذا الركن الثقافي الهامّ قبل اندثاره، أو قبل طرحه جانباً.
أما القارئ المستهدف، فهو كل قارئ عربي معني بالأمر. كتابي ليس عن الموسيقى وليس حصراً بالمختصين والأكاديميين؛ ولا هو يتطلب أيّ خبرة أو معرفة مسبقة. من شأنه أن يعود بالمنفعة على المثقفين والهواة كما على الجامعيين والشعراء بمختلف تجاربهم ومراحلهم الشعرية.


■ يشغل الشعر المحكي حيّزاً هاماً في كتابك، ما آفاقُه اليوم مقارنةً بشعر الفصحى؟ هل إيقاع الشعر المحكي هو أكثر مرونةً من إيقاع شعر الفصحى؟
ما أثار دهشتي وإعجابي بالشعر المحكي لم يكن مرونته الإيقاعية. بسبب حيثيات اللهجات المحكية وخلوّها من الإعراب، فهي تفتقر إلى الحركات القصيرة، مما يصعّب عملية إشباع واستنطاق التفاعيل الكلاسيكية أصلاً؛ ناهيك بالقدرة على تخطّي حدود التفعيلة في سبيل خلق إيقاعيات مرنة، أسوةً بالجاهليين أو الأمويين. لكن ما أثار إعجابي هو مرونة الشعر المحكي كنوع أدبي، وقدرته على التعبير عن شتّى المواضيع التي كنت أعتقد، مخطئاً، أنّها حصر بالشعر الفصحى. بمعنى أنني أرى فيه اليوم أفقاً لقصيدة الحاضر/ المستقبل لا يضيق عن آفاق قصيدة الفصحى، إذا اتفقنا على تحديد تلك الآفاق. فوجدتُ الشعر المحكي أوعَبَ لشاعرية مظفر النوّاب، مثلاً، من شعره الفصيح، وهذا بشهادته هو أيضاً؛ إلى جانب ضفائر إيقاعية/ تفعيلية عالية الجرأة شهدتُها في قصائده الأخيرة، غير المنشورة حتى الآن (فارگيت انت السفينة، ونا جايبلك بحر)، أو التأمليّات السوداوية التي تجدها في بعض رباعيات صلاح جاهين (إقلَع غماك يا ثور، وارفُض تلفّ/ إكسر تُروس الساقيَة، واشتِم وتِفّ/ قال: بس خطوة كمان، وخطوة كمان/ يا أوصَل نهاية السكّة، يا البير تجِفّ). ووجدت في قصائد طلال حيدر مشحونات عاطفية متبوعة بتفريغات وجدانية ندر نظيرها في شعر الفصحى عموماً. هذا إلى جانب براعةٍ لافتة في توظيفه تفعيلتين في قصيدة واحدة منذ السبعينيات. وإذا نحّينا البراعة الإيقاعية جانباً، فشعرُ العاميّة، إذا عولجَ بجديّةٍ واحترافية، يبقى أكثر أُلفةً في أذن متلقيه من شعر الفصحى بطبيعة الحال. من هنا، لست أرى سبباً وجيهاً لحصر القصيدة العصرية على الفصحى؛ ولا لترفّع بعض الشعراء الجادّين عن تناول قصيدة العامية، معتبرينها نوعاً فلكلورياً عاجزاً عن تخطّي دائرة الأفراح وما إلى ذلك.


الخليل الفراهيدي بنظري هو من ألمع الأدمغة التفكيكية التي عرفتها ثقافة العرب


■ إعجابك بالفراهيدي بائن لقارئ الكتاب؛ ومن الجهة الأخرى نجدك تنتقد أسلوب الحفظ والترديد للبحور الشعرية؛ فما أهمية الخليل الفعلية؟
الخليل الفراهيدي بنظري هو من ألمع الأدمغة التفكيكية التي عرفتها ثقافة العرب. إلى جانب كونه نحويّاً فذاً، فهو واضع أول قاموس عربي «كتاب العين»، ومُبتكر إشارات التشكيل التي نستخدمها حتى اليوم؛ وكانَ متبحّراً في الإيقاع كما يبدو من تأليفه لكتاب اسمه «الإيقاع». للأسف، هو كتاب لم ينجُ من حريق مكتبة بغداد أيام هولاكو. علم العروض الذي أوجده الفراهيدي، لم يقُم على قواعد وشرائع «اخترعها» ليقيّد بها حرية الشعراء، كما هُيّئَ لبعضهم حينها واليوم، بل قام على تحليلٍ دقيق للمنظومة الإيقاعية التي حكمت شعر العرب حتى أيّامه. وإضافةً إلى الثمار المباشرة لمشروعه «تصنيف التفاعيل والبحور الشعرية»، فالرجل قد أمعنَ غوصاً في أعماق لغة الإيقاع العربيّ وتوصل إلى تحديد خمس سلاسل أصل «الدوائر» تنشأ عنها جميع بحور العرب وتفاعيلها.

■ إذاً كيف ولماذا تولّدت عن نظريّته تلك التطبيقات «السطحية»، حسب قولك؟
من المفاجئ أنّ مشروع الخليل هذا لقي استخفاف واستهزاء بعض كبار مفكّري الفترة، مثل الجاحظ. من الجهة الأخرى، فإن تلامذة الخليل، أو بعضهم، لم يتمتّعوا برهافة أذنه الموسيقية ولا بقدراته التفكيكية، ولما أرادوا شرح أو إكمال نتائجه، التي تركها مقتضبة ومختزلة، دخلوا في سجالات وإفتاءات نحويّة أكثر منها إيقاعية؛ تقوم على إعمال العين بدل الأذن. وبالنتيجة، تركوا لنا نظاماً تلقينياً، بالمعنى السلبي، أي: تفعيلة أ + تفعيلة ب = بحر ج. كأن كل بحر شعري هو تتالٍ واحد محدد من الصناديق الكلامية! هذا الأسلوب قد يكون مفيداً لتعليم التقطيع العروضي وتشخيص البحور، لكنه عديم المنفعة في ترويض أذن الشاعر وتطوير مهاراته الإيقاعية. الشعراء لم يسمعوا إيقاعية الشطر على شكل «صناديق متتالية»، بل كسبيكةٍ مكتملة الاتّزان، يمكن تنويع مفاصل الكلام داخلها إلى حدٍّ كبير، فتنتج شرائح إيقاعية متباينة الطول والتعبير واللونيات، تبعاً لمُراد الشاعر وكفاءته، نسميها اليوم: الإيقاع الشعري. هذا إلى جانب تسابق العروضيين اللاحقين إلى إضافة اجتراحات واشتقاقات أو «استدراك بحور لم يثبتها الخليل». وحتى يومنا، تلحظ انشغال بعضهم في إيجاد بدائل رقمية لتصنيفات الخليل، أو إصرار البعض على وجود أنساق نبرية ثابتة تحكم الشعر العربي بصورةٍ أدق من بحور الخليل، وما إليه من اجتراحات لا تضيف شيئاً إلى صلب الموضوع. وذلك يأتي عوَضاً عن تطوير نهجِه الاستقرائي ومحاولة فهم البلاغة الإيقاعية الكامنة في شعر العرب؛ أو تعليل دوافع الأذن العربية في انتخابها لإيقاعات معينة ورفضها لأخرى بدل الاكتفاء بالأوصاف السطحية: مستملحة/ مُستقبحة؛ أو تمرين الفقه العروضي بحيث يستوعب الفترات الشعرية الحديثة وغير الملتزمة بالعروض الكلاسيكي بدل خلق هذه القطيعة ما بين القصائد الحديثة والعروضيين المتزمّتين. وأمر لافت آخر هو تعامي العروضيين على مر أجيالهم عن أهمية الدوائر التي صنّفها الخليل، معتبرينها طريقةً تصنيفية فحسب، ومتجاهلين كونها الروافد الخمسة العملاقة التي استقت منها الشعرية العربية إيقاعها. وباعتقادي أنه لولا توصل بعض شعراء الحداثة إلى إمكانية التحليق في فضاء السلسلة الإيقاعية، لما تمكنوا من مغادرة البحور الكلاسيكية.

■ في الفصول الأولى من كتابك، تسهب في تحليل العلاقة بين حياة الجاهليين والشعر/ الشعراء، هل بالإمكان مقارنة هذا مع الشعراء وأهميتهم في الحياة المعاصرة؟
كلا! الشعر في يومنا فقد الكثير من أهميّته الحياتيّة وحتى الثقافية. قد يكون ذلك بسبب ظهور منافسين كالرواية، المسرح، الرسم، السينما... أو بسبب تنازُل الشعر الحديث عن راهنيّته نتيجةً لإغراقِه في التجريدية والسوريالية وما إليه، مما أبعد تناولَه عن الجمهور العادي الذي استعاض عنه ببدائل فنيّة أو حتى ترفيهية أخرى. تعال لا ننسى أن الشعر القديم أيضاً فقد شيئاً من فردانيته مع ظهور الإسلام، سواء كعقيدة ومنظومة أخلاقية أو كنظام حكم.
أمّا شغف الجاهليين بالشعر، أو قل اعتماد حياة الجاهليين على الشعر، فهو ظاهرة لا مثيل لها عالميّاً، وليس في حياتنا العربية المعاصرة فقط. لنتذكر بدايةً أن الجاهلية المعروفة لنا شعريّاً تمتد على 120 عاماً قبل ظهور الإسلام؛ وهذه الفترة الوجيزة نسبيّاً ولّدت ما لا يقل عن 130 شاعراً ما زلنا نتذاكر أسماءهم حتى اليوم! الجاهليون لم يعتبروا الشعر «نوعاً أدبيّاً» من أنواع إبداعية أخرى كالموسيقى والرواية والنحت، فهم لم يعرفوا غيره، ولم ينشغلوا حتى بعلوم أخرى كالعمارة والفلك والرياضيات والفلسفة؛ كل هذا إلى جانب انعدام «ديانة» مركزيّة شموليّة تنظم حياتهم الروحانية والأخلاقية، أو حتى سلطة سياسية موحّدة تحكم حيواتهم اليومية. بالنتيجة، وجد الجاهليون في الشعر عقيدةً، أو أيديولوجيا فطرية، فرّغوا من خلالها جميع طاقاتهم الفكرية والوجدانية. وفي المقابل تحولت القصيدة إلى حاضنتهم ومظلّتهم الأمينة. لا ننس أن القصيدة لم تتطلّب مسرحاً أو مبنىً أو حتى لغةً مكتوبة، ما سهّل على الناس حفظها في صدورهم خلال تجوالهم المستديم.

■ في فصول عديدة، تتطرق إلى «البنيوية» على جميع المستويات؛ هل أنت، كموسيقي، تتناول البنيوية، العبارات، الأنساق والاستمرارية بمفهوم مختلف عنك كعَروضيّ؟ أم أن هناك تشابهات على المستوى السمعي؟
من الناحية البنيويّة العميقة، هناك الكثير من المشترك بين الفنون ذوات الطبائع العلمية، فجوهر التأليف، أو الإنشاء، هو ذاته سواء في اللحن، العمارة، النحت أو الإيقاع الشعري. والمنجزات الفنية التي نتلقاها هي في نهاية الأمر استنطاقات لمبانٍ هيكلية منطقيّة تتوخّى الاتزان والتماثل إلى جانب المرونة وتوفير آفاق للتعبير الذاتي، حتى مع تباين وسائل ولغة هذا التعبير ما بين العمارة والموسيقى مثلاً.

الشعر القديم فقد شيئاً من فردانيته مع ظهور الإسلام، سواء كعقيدة ومنظومة أخلاقية أو كنظام حكم

أنا أتناول الشعر، والعروض خاصةً، كظاهرة سمعيّة خالصة مخالفاً بذلك نهج المدرسة العروضية الممتدة منذ العباسيين، وتتبنى النهج النحوي بخصوص إمكانيات وجوازات تصريف مستفعلن وأخواتها، وبكونه ظاهرةً سمعية. فالإيقاع الشعري بطبيعة الحال يقع داخل دائرة خبرتي الموسيقيّة. لكن يخطئ من يعتقد أن الإيقاع الشعري هو تفريعة من تفريعات الإيقاع الموسيقي، بل قد يكون العكس هو الصحيح. فالمنطق الإيقاعي للشعر العربي (خصوصاً) هو أكثر تعقيداً بدرجات من المنطق الذي يحكم الإيقاع الموسيقي؛ والتباين بينهما يصل حد التعاكس في اتجاه الشدّ والتأثير على الأذن؛ هذا ناهيك عن «النظام التنفّسي» للإيقاع الشعري والمختلف كليّاً عنه في الموسيقي.

■ تتطرق كثيراً إلى الوتد والسبب، ومن ثمّ التفعيلة؛ ما دام الوتد والسبب (حسب مفهومك) العنصرين الإيقاعيين الأساسيين، فما الحاجة إلى التفعيلة؟ ماذا بمقدورها أن تضيف؟
المقطع القصير والمقطع الطويل هما العنصران الإيقاعيان في شعر العرب. الوتد هو قصير ملحوق لزوماً بطويل، وهو المحرّك الإيقاعي للشعر. أما السبب، فهو مقطعٌ طويل مستقل عن الوتد. كل تفعيلة حقيقية في الشعر، تتجمع من وتد واحد وسبب واحد، أو وتد واحد وسببين، في حين يتكون كل شطر من تفعيلتين إلى أربع تفاعيل؛ تفاعيل الشطر قد تكون متشابهة (بحر خالص)، أو مختلفة (بحر مركب). باعتقادي أن التفاعيل تبلورت في مرحلة نشوئية متأخرة عن الأوتاد والأسباب، بمعنى أن الشعر السحيق اعتمد إيقاعه على الأوتاد والأسباب ولكن ليس بدقّة الانتظام التفعيلي المعروفة لنا من أوائل القصائد التي وصلتنا. هنا سأقوم بالقياس على الشعر الإغريقي، وهو أيضاً يعتمد الأسباب والأوتاد، فتقطيع الشعر الإغريقي إلى تفاعيل لا يتم بنفس السهولة والوضوح كالشعر الجاهلي، وهذا يعود ليس فقط لكثرة المقاطع الوسطيّة/ المرنة عند الإغريق والتي يجوز اعتبارها طويلة أو قصيرة، لكونك تلحظ أيضاً حيرة الخبراء في تحديد مكان الوتد في بعض مواضع شعر الإغريق، ما يدل برأيي على عدم تبلور مفهوم التفعيلة، حينها، إلى درجةٍ تلزم الشعراء بتفاصيلها. وهي نفس الحالة التي قد تكون نشأت عليها أشعار العرب في الجاهلية السحيقة. جدير بالذكر أن نمط الـ «أبوذيّة» الشعبي العراقي يمتاز بظاهرة ميوعة تفعيلية مشابهة إلى حد ما، فهو النمط الوحيد الذي يتيح إبدالات معيّنة بين تفاعيل شطور نفس البيت، ومع ذلك يحافظ على عدد الأوتاد والأسباب، أي عدد مقاطع الشطر، وعلى موضع الوتدين الأول والثاني من كل شطر. ما يمكن وصفه بالسيولة التفعيلية؛ ومن شأن ظواهر كهذه أن تفتح آفاقاً أمام شعراء معاصرين حول إمكانيات تمرين الإيقاع الشعري وتحريره من «وطأة التفعيلة» من دون التضحية بأبجديات الإيقاع ذاتها، والمستقاة من لبّ اللغة العربية. من هنا، يمكن اعتبار التفعيلة حالةً وسطية ما بين العناصر الإيقاعية وبين الشطر المكتمل؛ والتفعيلة العربية حصراً هي على حالة جهوزية عالية إذا قورنت بغيرها. إذا أضفنا إلى ميوعة التفعيلة الإغريقية حقيقة كون بحور الإغريق خالصةً جميعها، يمكن افتراض كون بحورنا المركّبة ولدت ليس كنتيجة لقرار واعٍ بمزج تفعيلتين أو سلسلتين، بل كطفرات طرأت على سلسلة معيّنة، ومن ثمّ انتُخِبَت وهُذّبَت وانتظمت فيما نسميه اليوم البحور المركبة.

■ إلى جانب الميزان الشعري ومراكز ثقله (نقاط تأثيره)، تتناول هنا وهناك موضوع النّبر أيضاً. هل تأثير الميزان هو أشد من تأثير النبر دائماً؟ هل يمكن أن يتناقض التأثيران؟ وهل طريقة توليفهما تدلّ على مهارة أكثر أو أقل؟
النبر هو عنصر عضويّ من عناصر اللغة العربية المسموعة، مع أنه أقلّ صراحةً أو وضوحاً من طول المقطع مقابل قصره؛ فاعتبارات النبر أثناء القراءة لا تقل أهمية عن اعتبارات أخرى توضّحها وتُلزِمنا بها أحكام تجويد القرآن الكريم. في الشعر الإنكليزي مثلاً، حيث لا اعتبار لأطوال المقاطع وقصرها، النبر هو العنصر الإيقاعي الوحيد، فالمقطع المنبور هو الثقيل والمقطع غير المنبور هو الخفيف. أما في العربية (الفصحى خاصةً)، فحضور التفاوت الصوتي/ إيقاعي ما بين القصير والطويل، هو جليٌّ وراسخ في الأذن بما لا يتيح لعنصر النبر أن يشكل له منافساً، ناهيك من التفوّق عليه أو استبداله! وعودةً إلى استفسارك، فالتأثيران قد «يتناقضان»، لكنه تناقض مرغوب ومبارك! لأن مراكز ثقل الميزان العروضي راسخة وثابتة في الهيكل الإيقاعي نفسه، ولا تتبدّل ولا تتأثر بتغيّر الكلام الشعري ولا بتغيّر مواضع نبر هذه الكلمة أو تلك؛ بينما تتبدل كلمات النص الشعري، وتتنقّل مواضع نبرها، بطبيعة الحال. هذا التخالُف البديع ما بين الركائز الثابتة والمتكررة، التي يفرضها الميزان طيلة القصيدة، وبين مواضع النبر المتبدلّة والمتراقصة على السطح المسموع المباشر، هو ما يلوّن للقصيدة ثوبَها الإيقاعي البهيّ، أو قوامَها الموسيقي المتلألئ؛ وهو ما يسمى في علم التّناغم: تقابل الأصوات، «كاونتربوينت»، إذا أتيحت لي الاستعارة من مجال الموسيقى. أما إذا تطابق التأثيران طيلة الشطر، فتأثير النبر سيذهب سدى لأن قوّة ركائز الميزان العروضي ستمتصّه تماماً وتكون الحالة الناتجة أشبه بتوكيد ما هو مؤكد، أو بلزوم ما لا يلزم؛ وذاك تبذير فنّي لا طائل منه، ناهيك بتقييد إضافي للنص الشعري بقوالب نبريّة محدّدة، لا يقتضيها الميزان ولا التفاعيل. وللخلاصة، فمن حسن حظّنا كمستمعين أن مواضع النبر تتجوّل في فلك الشطر الشعري بحُريّةٍ شبه مطلقة.
أما بخصوص التوليف بين العنصرين فقد يقوم الشاعر هنا وهناك بتوظيف النبّر لغايةٍ تعبيريّةٍ ما، ويتم له الأمر باستخدام مفردات تولّد الأنساق النبريّة المرغوبة، من دون أي علاقة مقصودة بمواضع ثِقَل الميزان العروضي. هو ما يفعله، مثلاً، امرؤ القيس ببراعةٍ فائقة في بيته الشهير: «مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معاً..»، حيث يتم توظيف النبر الواقع على المقطع الثاني في كل من «مِكَررِن مِفَرْرِن»، مقابل نسق مخالف ينتجه النبر الواقع على المقطع الأول في كل من «مُقبِلِن مُدبِرِن مَـعاً». توظيف هذين النسقين هنا يأتي لإيضاح الصورة الحركية للحصان والمتعاكسة ما بين الكرّ والفرّ، أو بين الإقبال والإدبار المتزامِنَين. وللتنويه، فالمقطعان الأولان فقط من المقاطع الخمسة المنبورة في هذا الشطر يتموضعان على نبضات قويّة في الميزان، أو مراكز ثقل عروضية.

■ من الملاحظ أن كتابك لا يتطرق إلى قصيدة النثر، كونها «لا تعتمد أيّ نظام إيقاعي». مع ذلك ما معنى شعر دون ميزان أو إيقاعية؟ وهل الشعر بحكم تعريفه ينبغي أن يلتزم بالإيقاع وإلا فيصبح شيئاً آخر؟ من الهامّ توجيه هذا السؤال لك حصراً، كمن تعمّق في أهمية الإيقاع بالنسبة للشعر، وتطوّره.
صحيح أنني لا أتطرق إلى قصيدة النثر، كونها تمتنع عمداً عن اتّباع أي نظام إيقاعي أو أي دَوريّة إيقاعية. شعراء النثر يقولون إن إيقاعاتهم «داخلية»، أو إنها تُبنى على الحركة النفسية أو الصوريّة؛ أي أنها ليست «إيقاعيات سمعيّة». وبالتالي فهي تقع كليّاً خارج دائرة كتابي هذا والمعني ببحث وتحليل الإيقاع المسموع. تعريفي لها كـ «شعر» أو عدمه ليس ذا صلة، فلستُ في صدد ترجيح مسائل كهذه. أما لو سألتني عن رحلة تطوّر المفهوم الإيقاعي في الشعر، فـ «قصيدة النثر العربية» بنظري تقع خارج هذه الرحلة، هي ظاهرة مبتورةٌ تماماً عمّا سبقها؛ أو قل هي ليست حلقة متطوّرة إيقاعاً، مفهوماً ومبنًى عن القصيدة العربية، أو عن أي قصيدة أخرى، كما لحظتُ من بعض اطّلاعاتي وتقصيّاتي. عموماً، أنا على وشك الانتهاء من كتابة قراءتي لظاهرة «قصيدة» النثر، في مقالةٍ صحافية أتمنى أن ترى النور قريباً.