هل تأخر هذا الكاتب والمحلّل السياسي اللبناني كثيراً قبل أن يقرّر خوض مُغامرة السرد القصصي، أو السرد الروائي؟ عمله الجديد «جيرمين وأخواتها» (دار الساقي) يظهر في كل صفحاته سيرة جماعة من الناس، يكاد خيط سميك يربط بينها. عبر رحلته في الكتابة، كان حازم صاغيّة مطالباً، منذ وقت طويل، بأن يفعل شيئاً في الأدب. أن يكتب نصاً طويلاً مدعوماً بمعرفته التي تجعله قادراً على الخوض في كل شيء، حتى في الغناء. لقد فعلها. نستذكر هنا كتابه حول كلثوم «الهوى دون أهله» (1991)، الذي أثار حوله غباراً كثيراً أتى من جهة عُشّاق الست في «المحروسة» وهو يفكك سلطة صوتها على جمهورها أولاً وعلى السلطة الحاكمة تالياً.
لقد كان صاحب «قضايا قاتلة» (2011) مُطالباً بإعادة توجيه قلمه نحو سياق السرد القصصي أو الروائي. كأنه خُلق روائياً ونسي ذلك في زحمة وضجيج الهمّ السياسي الذي ينشغل بالكتابة عنه على نحو يومي، حيث السياسة تقتل الأدب. لعلّه كان يشعر بتلك الأثقال التي يخلّفها التحليل السياسي على ظهره، ليفيق منها بين كتاب وآخر، وتأتي جميعها مكتوبة على نحو سردي يليق بسيرة ورواية وأدب.

لو أخذنا مثلاً عملين أخيرين لصاحب «الانهيار المديد» (2012) كمثال على بروز النبرة السردية على نحو واضح وميل لجهة الأدب، سنتوقف عند «مذكرات رندا الترانس» (2010) أولاً، ثم «أنا كوماري من سريلانكا» (2012). في هذين العملين على وجه الخصوص، ظهرت تلك القدرة على السرد بنبرة الراوي كلّي العلم. أعاد تدوير قصص وسيَر حقيقية وقدّمها في قالب حكائي متين ومضبوط، يسمعها من لسان أصحابها ليعيد صياغتها بحبر قلمه، مضيفاً لهجته الخاصة لتظهر بعد ذلك مقسومة بين طرفين: أصحابها، والقلم الذي سطر حكايتهم. من هنا، يمكن القول بأن صاحب «هذه ليست سيرة» (2007) لم يخترع هاتين الحكايتين من رأسه. لقد أعاد تقديمهما فقط، قام بصياغتهما لتظهرا في قالب شديد القرب من عمل روائي مكتمل الأركان. ولولا ما عرفناه عن الكاتب بأنه قد نقلهما فقط وبأنهما من أرض الواقع على نحو كُلّي، لما أدركنا حقيقة أصلهما.
على هذه الأرضية، إذاً، يمكن الحديث عن الاشتغال السردي الجديد لحازم صاغيّة وقد أعلنه صراحة، وهو يفعلها للمرة الأولى على غلافه، بكونه مجموعة من «القصص» بعنوان «جيرمين وأخواتها». إنها أرضية ستعيدنا حتماً إلى نقطة التقاطع بين الحياة الذاتية الشخصية التي ذهبت من عُمر صاحبها وبين المُتخيّل، أو توظيف الـ «أنا» وما يأتي مربوطاً بها وعلى صلة بالذاتي والشخصي بشكل واضح. ينبغي المرور مجدداً على فكرة أن السير الذاتية تبقى سيراً عندما يقرر أصحابها كتابة هذا التصنيف على أغلفة كتبهم. وليس على القارئ سوى التأقلم مع التثبيت الظاهر على الغلاف ولو كانت له وجهة نظر أُخرى بعد إتمام القراءة ووجدها مطابقة أو تكاد لسيرة كاتبها.

تقاطع بين الحياة الشخصية والمُتخيّل

في البداية، سنرى جيرمين التي جاء اسمها على غلاف هذه المجموعة القصصية. هي الصبيّة التي ضربتها الحياة على نحو مبكر، حين صدمتها سيّارة وهي طفلة، فلم يعد لا جسمها ولا عقلها ينموان على نحو طبيعي. لكنها مع ذلك حازت «حكمة» كانت تساعدها على اختيار الصائب من الأمور والأحكام على نحو مضبوط في أوقات كثيرة. إلى ذلك، كانت قد اخترعت طريقة تخصها في تعلّم مفردات جديدة في كل وقت، ولو جاء استخدام تلك المفردات بطريقة تخصها وحدها. لقد كان اختياراً مضبوطاً أن يكون الافتتاح بهذه البراءة كي تصبح تمهيداً ليقول براءات أخرى معتمداً على جيرمين التي صارت تلقي التُهم على الذين تكرههم بأنهم «برجوازيّون». أمّا الذين تحبّهم، ولسبب ما ( كان الراوي في عدادهم) فكانت تصفهم بأنّهم «غير برجوازيين».
سنجد في سياق الشخصيات (البطلة) أنطون الذي كان سريع التعلّق بالأشياء لكنه كان صفراً في أمور السياسة وأحاديثها. مع هذا، لم يكن فاشلاً في اختراع نقطة تمكنه من الدخول في قلب الأحاديث التي كانت تدور حوله إلى درجة إطلاق ضحكته المدوية «كأنه يقول (بها) إنه هزمنا في موضوع نتعاطاه ولا يتعاطاه». أضف إلى ذلك حيله في البحث عن أدوات تفوّق أُخرى تعمل على تحسين موضعه بين الرفاق: موهبة القوة العضلية والأكل، وقد وصل إلى مستوى ودرجة التفريق بين «من يحبّون الأكل وبين من يُحبّهم الأكل وصنّف نفسه في الخانة الثانية». لكنه مع ذلك، كان عجيباً في ابتعاده عن البنات لأنهن «يُضعفن قوة القوي الذي يروح يهزل وتنقطع شهيته فيما يبالغ في التأوه والاستماع إلى عبد الحليم حافظ».
أمّا مارون الذي ترك حزب الأهل والأعمام والأخوال، فقد قرّر الانضمام إلى حزب الغرباء وراح يهتف في تظاهرات بيروت «من قهري ومن جوعي، بدّي أعمل شيوعي». وقد جاء هذا الهتاف بالألم على والدته. لقد سمع الناس بكل تأكيد صوت ابنها «يهتف في الطرقات على مرأى الجميع ومسمعهم أن أهل بيته يجوّعونه ويقهرونه».
وفي مجموع تلك القصص التي ضمّها كتاب حازم صاغيّة، على كثرتها وتقسيمها كأبواب بين «حيوات بريئة» و«أمزجة ولا أمزجة» و«مجرد تفاصيل» وأخيراً «عن ماضينا ومستقبلنا»، وبين عناوين منها «سيرة كاهن لكل الفصول» و«معين حين لم يعد يسألني» أو «جرجي مطارداً الموت حتى النهاية»... تبدو كُلّها منطلقة من عبارة أولى افتتاحية موضوعة بدقة وبعقل، مثل تلك البدايات الذاهبة في رهان مع قارئ لن يترك القصة الأولى من بدايتها إلا وقد علق ببداية القصة التالية. مع ذلك وفي التفاصيل التالية لكل قصة، سنجد صاغيّة المحلل السياسي ونبرته؛ نبرة المقال السياسي نفسه والصوت المرتفع الذي يصل إلى درجة من الخطابية، لا يمكن لنص سردي احتمالها. النبرة ذاتها تفلت منه حين تقوم بإنطاق الشخصيات ما يود هو قوله. مصطلحاته نفسها، وتطرفه نفسه، التطرف في الأشياء التي يتعلّق بها ويتركها حين يقبض على أسباب فشلها. وهو في كل ذلك صاغيّة القومي والناصري السابق، المناصر لثورة الخميني، الماركسي واللينيني، التارك لكل ما سبق والمتبني، بعدها، لـ «ثورات الربيع العربي». لكنه اليوم صار قاصاً، يمتهن السرد ويعيد النظر في الأيام الماضية.