لنبدأ من النهاية. نهار الاثنين 14 شباط (فبراير) رحلت فروغ فرخزاد إثر حادث سير خلال قيادة سيارتها على تقاطع طرق في مرودشت شمالي طهران. انحرفت السيارة واصطدمت بجدار، وتوفيت على الفور متأثرة بجروح في رأسها قبل وصولها إلى المستشفى. وفي اليوم التالي، نشرت عائلتها نعياً مقتضباً في صحف طهران.
وفي اليوم الذي تلاه، غطت الصحافة الإيرانية بنحو لافت مراسم تشييعها ودفنها في مقبرة «ظهير الدولة» بمشاركة شعبية متميزة.
استهلت فروغ فرخزاد (‪1967 - 1935‬) فصلاً مغايراً في مسار الشعر الفارسي المعاصر. يمكن اعتبارها الشاعرة الأولى التي أفصحت عن مشاعرها الأنثوية بصراحة موشاة بألم ودهشة. استطاعت في مسار حياة قصيرة أن تعلن احتجاجها ضد كل ما يسيء إلى الإنسان في فترة زمنية امتدت ما بعد مصدق وما قبل الثورة. هذه المشاركة ستقتصر على تجاربها السينمائية والمسرحية كمنتجة ومخرجة وممثلة.
قبل اللقاء مع إبراهيم كلستان، المخرج والأديب والسياسي اليساري، كانت فروغ في بحث دؤوب عن فرصة عمل. ومع تواصل اللقاءات، منحها كلستان فرصة عمل كمساعدة له في الاستوديو الذي يمتلكه. ترسخت علاقتهما ليتحولا تالياً إلى عاشقين، مستلهمة الدعم والخبرة من كلستان المتزوج أصلاً بقريبته. لذا رافقت تلك العلاقة سلسلة من الإحباطات في مجتمع شرقي تحده الكثير من القيم والتقاليد المتوارثة.
يقرر كلستان عام 1959 إرسال فروغ إلى بريطانيا بغرض دراسة إنتاج الأفلام، إلى جانب تعلم اللغة الإنكليزية. مع عودتها، تقرر إنتاج فيلمها الأول «حريق» الذي يعرض حكاية الحريق الذي اندلع قبل عام في بئر نفط قرب الأحواز. ويبرز الفيلم الصراع المحتدم بين الإنسان والسنة اللهب. صور الفيلم شقيق كلستان. شهور قليلة تمضي لتنتج فروغ فيلمين وثائقيين: الأول عن ظاهرة الغزل الإيراني، والآخر بعنوان «مياه وحر» الذي يصور بيئة عبادان الجنوبية.
في صيف عام 1961، أسهمت فروغ في إنتاج فيلم «البحر» حيث لعبت دوراً ثانوياً ضمن أحداثه. لكن الفيلم واجه صعوبات جمّة عرقلت إنجازه. وفي خريف العام التالي، تسافر إلى تبريز برفقة مجموعة تقنيين من استوديو كلستان. وخلال الأيام الـ 12، أنجزوا الفيلم الوثائقي «المنزل أسود» عن مستعمرة جذام قصية ومنبوذة. شكلت تلك التجربة منعطفاً متميزاً استمر طويلاً في حياة الشاعرة. إذ تبنت صبياً من والديه المصابين والموجودين في المستعمرة. انتقل معها الصبي إلى طهران وعاش معها لغاية رحيلها لتتكفل والدتها برعايته. مثّلت تجربة التبني بالنسبة إليها معادلاً موضوعياً لأمومة ضائعة إثر افتقاد طفلها الذي تكفلت بتربيته عائلة طليقها.
أشرف كلستان على توليف الفيلم وتحديد شكله الأخير، مشدداً في حوارات صحفية على أن فروغ استطاعت أن تجد نهجها الخاص في السينما: فكراً ورؤية مثلما فعلت مع الشعر منذ سنوات عدة. أطلقت فروغ في الفيلم صرخة واضحة المعالم ضد المجتمع الإيراني الذي تحاول الحداثة المصطنعة تجويف جوهره. استقبلت الأوساط الثقافية الإيرانية الفيلم باهتمام لافت، واحتفت كلية الطب في جامعة طهران بعرضه الأول. حضر العرض كل من كلستان وزوجته وفروغ. ومع نهاية العرض، طلب منهم التوجه نحو المقاعد الخاصة بكبار الضيوف، حيث كانت الشقيقة التوأم للشاه أشرف بهلوي وزوجته فرح ديب، تجلسان. لكنهم أصروا على عدم الذهاب. وفي نهاية المطاف، رضخوا للأمر. ألقوا التحية وعادوا مسرعين، إذ كانت كل من الضيفتين غارقتين بالدموع.
في العام الذي يليه، أنتجت فرخزاد فيلماً وثائقياً لصحيفة «كيهان» تناول طباعة الصحف وتوزيعها في ظلال أعوام فاصلة شهد فيها المجتمع الإيراني انقسامات حادة حول دور الدين في الحياة العامة.
في عامها الأخير، تميزت فرخزاد بنشاط مكثف. كأنها على علم بمنيتها المقبلة على عجل. في الربع الأول من عام 1966، سافرت مجدداً إلى بريطانيا لدراسة الإخراج بتمويل من استوديو كلستان. وانتقلت بعدها إلى إيطاليا للمشاركة في ورشة عالمية لكتابة السيناريو. ومن هناك كتبت إلى كلستان رسالة تترجم فيها مشاعر الوحدة التي تعتريها. رغم كل البشر الذين يحيطون بها «أشعر بالوحدة إلى الدرجة التي يتهيأ لي أن حلقي سينفجر من الأسى».
ولعل ترجمة وإعداد مسرحية «القديسة جاندارك» لجورج برنارد شو٬ والتحضير لتجسيد دور البطولة فيها، كان من أهم مشاريع الشاعرة مطلع عام 1967. ويبدو أن المشروع بنسخته الفارسية٬ كان يمثل مجابهة ساخنة مع نظام الشاه ونقداً لاذعاً للمؤسسة الدينية. غير أنها رحلت قبل تحقيق تلك الأمنية.
قبيل وفاتها بأسابيع، كتبت في إحدى رسائلها: «كم أنا فرحة بعدما أصبح شعري أبيض ٬وعلى جبهتي ظهرت تجعيدتان كبيرتان. لم أعد حالمة. قاربت الثانية والثلاثين من العمر. رميت كل هذه الأعوام ورائي بالمقابل ووجدت ذاتي».
خلال نهارها الأخير، زارت فرخزاد والدتها ودار حديث بينهما وصفته الشاعرة في رسالة لها بأنه الحديث الأجمل بين ابنة ووالدتها. ثم توجهت إلى الاستوديو، وطلب منها كلستان إحضار شريط سينمائي من موقع تصوير قريب. وفي طريق العودة، وقع الحادث المأساوي الذي شابه الكثير من الملابسات. إذ حذفت الكثير من التفاصيل في تقرير الحادث وسبب الوفاة والمسؤولية القانونية، وتقرير الطبيب الشرعي وإهمال إفادة الشهود.
وثمة أخبار تسربت بعد رحيلها مفادها أنها خرجت من الاستوديو في حالة غضب إثر حوار حاد مع كلستان بعدما أخبرته أنها وجدت في الفن رفيقاً لحياتها.
دفنت فروغ في مقبرة «ظهير الدولة» بإشراف كلستان بالقرب من قبر والدته، وجهز له ولزوجته قبراً إلى جانبها، واستقبل المعزين في منزله في محاولة لتعويض خسارتها وفاجعة رحيلها.
غادرت فروغ فرخزاد الحياة لتترك لنا كل هذا الإرث المتخم بالريادة والإلهام والنزعة الإنسانية بعدما دوّنت حياتها مثلما تدوّن قصيدة وأودعتها في ثنايا الأيام التي ستأتي.