شهدت المرحلة الحديثة في أوروبا نشوء نمط جديد من النشاط الفكري تم عبر رحلات استكشافية قام بها إما أفراد أو جماعات إلى مختلف مناطق العالم على مدى عام، وتحديداً إلى المشرق. هدف تلك الرحلات، التي موّلتها إما جمعيات علمية، أو عسكرية أو كنسية أو أثرياء، كان جمع ما أمكن من معلومات عن تلك المناطق بما يخدم من نادى بها.«اليمن، الحملة الدانماركية 1761-1767» لثوركِلد هنزن (ترجمه جيمس ماكفارلين إلى الانكليزية عن الدانمركية ـــ نيويورك ريفيو بوكس ـــ 2017 ـــ Arabi Felix: the danish expedition) يروي قصة الحملة الدانِماركية التي انطلقت يوم الرابع من كانون الثاني (يناير) عام 1761 بدعوة من ملك البلاد كأحد مظاهر انتقالها إلى العصور الحديثة التي يمكن تلخيصها بكلمتي العِلم والاهتمام بالأقاليم البعيدة وفي مقدمتها المشرق العربي، وطموحها أن تتبوأ مركزاً متقدماً بين الدول الاستعمارية في الغرب. ملك الدانِمارك أراد لها أن تكون طليعية من منظور كونها أولى محاولات الغرب للوصول إلى جنوبي جزيرة العرب، الإقليم الذي عرفه الإغريق باسم «العربية السعيدة» وعرفه العرب باسم اليمن، أي السعيد.

كانت المحاولة الأولى منذ حملة الإمبراطورية الرومانية قد انتهت بهزيمة منكرة راح ضحيتها ـــ وفق ما يرد في كتب المؤرخين الإغريق والرومان ـــ نحو عشرة آلاف جندي روماني، ولم يعد سوى فرد واحد من أفراد الحملة، كي يخبر سادته عن الهزيمة.
ربما يسأل سائل: ولم استكشاف اليمن الذي أثبت أنه عصي على كافة القوى التي حاولت الوصول إليه، وهزمت آخرين، وما سبب تسميته بالعربية السعيدة؟ بعض من كتب عن تلك الحملة أكد بأنها أهدافها لم تكن استكشافية استعمارية. فالموقع الأول الذي اختير هدفاً للرحلة كان المحطة التجارية الدانِماركية في ترنكبار في شبه القارة الهندية، وتقع اليوم في ولاية تاميل-نادو. لكن اهتمام الدانِمارك بالمشرق كان أيضاً استعمارياً، حيث تم تأسيس «شركة شرق الهند الدانِماركية» في عام 1616، على غرار ما فعلته بريطانيا من قبل، واحتفظت باسمها حتى عام 1850 عندما غيرت اسمها إلى «الشركة الآسيوية». وفي عام 1620، قام الأدميرال أف غيدِ بتأسيس أول محطة تجارية للدانِمارك في المنطقة، بالاتفاق مع حاكم المنطقة.
محطة الرحلة الاستكشافية الأولى كانت مدينة الإسكندرية ثم السويس. وبعد زيارة قام بها عضو الحملة الألماني كارستن نيبور في تشرين الأول (أكتوبر) 1762 إلى جبل سيناء، انطلقت إلى جدة ومنها إلى المخا.

مزيج من
اليوميات التاريخية والسير الذاتية


هدف الرحلة كان لاحقاً صنعاء ومنها إلى المخا ومن بعد إلى بومباي ثم إلى مسقط وبوشهر وشيراز وبيرزيبوليس المعروفة حالياً باسم تخت-جمشيد، مع التعريج على بابل وبغداد والموصل وحلب وقبرص وفلسطين وجبال طورس، ثم إلى إسطنبول لتحل أخيراً في الدانِمارك.
هذه الحملة التي أطلقها ملك الدانِمارك فريدريك الخامس جمعت عالم الطبيعة السويدي بيتر فورسكال وعالم اللغات الفيلولوجي فردريك كرستين فون هيفن وعالم الخرائط الألماني كارستن نيبور، والطبيب كرستين كارل كرمر وأخيراً لارس برغرن. ومن الجدير بالذكر أن الألماني نيبور الذي نشر ذكرياته عن الرحلة في مجلدات عدة طبعها على نفقته، انتهى الأمر به إلى العمل بواباً في أحد أقاليم البلاد.
الرحلة التي توفي أعضاؤها كلهم، عدا الألماني كارستن نيبور، تركت الكثير من الوثائق والرسوم والمراجع والأخبار عن تجربة فريدة عمل الكاتب ثوركِلد هنزن (1927-1989) المتخصص في الأدب، على جمع كل ما يمت لها بصلة في هذا المؤلف الذي نشر للمرة الأولى، بترجمته الإنكليزية عام 1965، وأعيد نشره محدثاً هذا العام بأسلوب أدبي. يقول كاتب المقدمة كلن ثبرُن، رئيس الجمعية الملكية الأدبية، إنه فريد. ومن الجدير بالذكر أن الكاتب الدانِماركي فضح في مؤلفاته العديدة انخراط بلاده في تجارة العبيد الغرب-هندية.
المؤلف قصة مغامرة واستكشاف وتحمل وموت، ودراسة الطبيعة الإنسانية تحت ضغوط غاية في الصعوبة. بعض من كتبوا عن المؤلف، قالوا إنه مزيج من اليوميات التاريخية والسير الذاتية، ترسم بورتريه مجموعة ديناميكية لعلماء استكشاف - فلاسفة. الكاتب قدم لنا في هذا المؤلف صورة الحياة الثقافية للقرن الثامن عشر، إضافة إلى قصة مغامرة حقيقية حدثت في بلاد بعيدة مجهولة.
يروي المؤلف تفاصيل كثيرة عن تلك الرحلة، التي واجهت مشاكل حتى قبل انطلاقها حيث طرد عضوان فيها من العاصمة الدانِماركية أثارا عراكاً في المدينة، قبل أسبوع من انطلاق الرحلة. كما يروي المؤلف عراك أعضاء الحملة الذي أدى، ضمن أمور أخرى إلى تعطلها مدة سنة في مصر بسبب ابتياع فون هيفن كيساً من الزرنيخ ظن زملاؤه أنه يريد قتلهم به، وكذلك كسل أحد أعضائها الذي لم يستفد من زيارة دير القديسة كاترين في سيناء ومكتبتها، ما أدى إلى تأخر اكتشاف أقدم نسخة من العهد الجديد فيها قرناً من الزمان.
من الأمور الجديرة بالذكر هنا أن الكاتب لم يخلد فقط تفاصيل تلك الرحلة بأسلوب أدبي جميل وسلس، بل أوضح أيضاً قيمة الاكتشافات العلمية التي سجلها أعضاء الحملة قبل وفاتهم ومن ذلك مثلاً أن النقش الذي رسمه نيبور إبان زيارته إلى العاصمة الفارسية القديمة برسوبوليس قاد إلى حل ألغاز الكتابة المسمارية.