في بالتيمور، خلف كنيسة وستمينستر، ينتصب قبر ادغار آلان بو. أقل من قرن بعد موته عام ١٨٤٩، في ليلة شديدة البرد من يناير. قامة غير واضحة المعالم لشخص يدخل المقبرة، يضع زهوراً ثلاثاً فوق القبر وزجاجة من الكونياك، ثم يختفي في الفجر الجليدي. طقس سيستمر دون توقف لمدة سبعين عاماً. من هو هذا الشخص الغامض الذي شرب حتى الثمالة نخب مؤلف Histoires Extraordinaires التي عرفها العالم بترجمة مذهلة من شارل بودلير، والتي نجدها مع «الف ليلة وليلة» وأعمال ديكنز وهانز كريستيان أندرسن في جلّ مكتبات العالم. كاتب من طينة آلان بو، بأعماله الجامحة مثل «القط الأسود» وقصيدة «الغراب» (The Raven) التي اعتبرت ضمن نفائس الأدب الانكليزي والعالمي، سيظل يثير أكثر من زوبعة مرتبطة بحياته وبموته على قدر سواء: حياته التي ابتدأت في بوسطن عام ١٨٠٩ وانتهت في بالتيمور عام ١٨٤٩. اربعون عاماً ابتدأت بيتم مبكر وطفولة بائسة، ومشاجرات مع الأهل بالتبني حول المال وكلفة التعليم، الى الانتساب للكلية الحربية والسفر مثل الشاعر الانكليزي اللورد بايرون الى اليونان عام ١٨٢٧ للقتال الى جانب جيشها ضد الاتراك، ثم الفشل في كلية «وست بوينت» الحربية والتفرغ للرواية والأدب.
الألغاز الكبرى سترتبط بموت ادغار آلان بو الغريب، واكتشاف مخطوطات غريبة في المقبرة تنسب إليه بعد فترة طويلة من وفاته، وهذه القصة الغريبة لشبح الزهور والكونياك، التي تبدو كأنها فصل خيالي جديد مستلّ من رواياته الجامحة.

الموت بحيلة تنكرية

عادة ما تكون النهايات سيئة. يموت ادغار آلان بو وسط اضطرابات وفوضى. بالتيمور، المعروفة بمعدل مرتفع من الجريمة تتحضر عام ١٨٤٩ لانتخاب عمدة جديد. شوهد الأديب المشهور بأدب التحري للمرة الأخيرة بعد أيام أربعة من المعركة الانتخابية، يهيم على وجهه مرتدياً ملابس غريبة (من يتخيل ادغار آلان بو مرتدياً قبعة من سعف النخيل؟). كان بو يهذي بكلمات غريبة ويبدو مضطرب الذهن بشكل كبير، لينطفئ بعد أيام قليلة في مشفى بالتيمور، ليعزى سبب الوفاة الى انفجار دماغي. في الأعمال البيوغرافية العديدة التي تناولت حياته بعد موته، ترد الفرضية التالية: شوهد ادغار آلان بو يوم انتخاب العمدة قرب مركز للتصويت، مرتدياً لباس شخص آخر. لم يكن غريباً، وسط اضرابات تلك المرحلة، أن تعمد عصابات في بوسطن على تهديد واختطاف اشخاص كيفما اتفق من الشارع وارغامهم على التصويت لمرات عديدة من أجل فوز مرشح معين. قد يفسر هذا التحليل الهيئة الغريبة، وعبارات الهذيان، والموت الصاعق. لم يتحمل روائي الحبكة المعقدة أن ُيعتدى بحيلة بسيطة.

بداية اللغز

يدفن ادغار آلان بو في قبر متواضع، برخامة لا تحمل أي كتابة ستتغطى بسرعة بأعشاب عالية. البلاطة الرخامية البيضاء التي سيدخر بعض أعضاء اسرته بالتبني المال لشرائها بعد حين لتكريمه بعد وفاته ستتكسر هي أيضاً. ملعوناً تحت الأرض التي يغطيها الجليد، لن يقدّر لإدغار آلان بو أن يعرف أنّ شهرته تجوب الآفاق. كتّاب كثر مثل والت ويتمان، ولوفكرافت، وأوكونور سيعترفون أن أسلوبه الرومانتيكي أو السوداوي سيلهمهم كثيراً في أعمالهم، وأن بودلير سيعكف لمدة ١٤عاماً في ترجمة أعماله الى لغة موليير. عام ١٩١٣، يوضع أثر صغير من الغرانيت محفور عليه مقطع من قصيدة «الغراب» عند قبره خلف كنيسة وستمينستر.
تنقضي الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. عام ١٩٤٩، في صحيفة محلية ـThe Evening Sun ـ يظهر مقال صغير حول ترميم كنيسة وستمينستر. يتحدث كاتب المقال عن «مواطن مجهول»، أتى ليضع في ليل التاسع عشر من يناير، زهوراً ثلاثاً وزجاجة كونياك فاخرة على قبر ادغار آلان بو. الوصف الفيزيولوجي للمواطن «الغامض» بدا كأنه ينبثق مباشرة من رواية فانتازية: هيئة ترتدي معطفاً طويلاً أسود، وقبعة بحواف عريضة، ومنديل عنق أبيض وعصا مذهبة. شبح يدخل المقبرة لرد الاعتبار لإدغار آلان بو، تماماً في الذكرى المئوية لولادته. لم يرد ذكر للشبح بعدها في الصحف المحلية حتى ظهور جيف جيروم. عام ١٩٧٦، التقى المصور اليافع جيف جيروم بشخص يدعى سام بوربورا. سام الستيني، كان مهووساً بادغار آلان بو ويخصص وقته بالكامل للعناية بكنيسة وستمنستر. ابتدع سام فكرة تنظيم زيارات دورية للكنيسة والمقبرة، ووظف جيف جيروم دليلاً للزوار. في صباح التاسع عشر من يناير عام ١٩٧٧، كان جيروم يتنزه في ممرات الورد للحديقة، محاذياً القبور، حين لفت انتباهه شيء خارج عن المألوف. الزهور الحمراء الثلاث وزجاجة الكونياك مجدداً على قبر بو. لا يتأخر سام في استعادة المقال القديم للصحيفة المحلية، وليعترف له حارس المقبرة أن الأمر كان يتكرر في السابق لتنتهي زجاجات الكونياك الفاخرة على مائدته (أي الحارس). كان على جيروم أن ينتظر سنة كاملة.

الزهور والزجاجة، عود على بدء

التاسع عشر من يناير التالي، يجلس جيروم في سيارته مترصداً قبالة المقبرة. ينتظر ساعة، اثنتين، ثلاثاً. مثانته التي تكاد تنفجر تدفعه الى أن يترك السيارة ليقضي حاجته خلف الجدار المجاور. اعتراه الذهول عند عودته: زهور حمراء ثلاث وزجاجة الكونياك فوق القبر «كنت أغلي من الغضب» يقول جيروم، لكن ليس لوقت طويل. تركت كل شيء في مكانه وابتعدت قليلاً.

الألغاز الكبرى سترتبط بموته الغريب، واكتشاف مخطوطات غريبة في المقبرة
الشبح عاد، صب لنفسه قدحاً من الكونياك كان يبدو كأنه يضرب القدح بروح بو، ويرتدي الملابس ذاتها التي وردت في المقال: المعطف الأسود الطويل، ومنديل العنق الأبيض، والقبعة بالحواف العريضة. حين روى جيروم قصة الشبح في اليوم التالي، قوبلت روايته بكثير من التشكيك. دعا رفاقه الى مرافقته في العام المقبل، ومن مكان مرتفع، رأوا بأم أعينهم القامة التي تنحني فوق القبر، تذرف دمعة من الكونياك وترحل. الأمر يتعلق برجل، دون القدرة على تحديد سيماه أو عمره. بدأت القصة تأخذ مداها من التحليلات: الزهور الثلاث تمثل الموتى الذين يرقدون هنا: ادغار آلان بو، زوجته فرجينيا وأمها ماريا كليم. الكونياك بحد ذاته، لم تبد له أهمية استثنائية الا لعلة في نفس الشارب. على مر السنوات، كان الطقس الغريب يترافق مع رسائل صغيرة مثل «ادغار، لن أنساك». اهتم جيروم بجمع الزجاجات والرسائل ليضعها بحرص مطلق في متحف ادغار آلان بو الذي تم تشييده قرب المقبرة. اكتسب الشبح شهرة قومية ليتجمع جمهور من الناس خلال السنوات يرصدونه كخسوف للقمر. عام ١٩٩٠، نجح مصور Life Magazine بالتقاط صورة له عن بعد. لم يكن ليعرفه أحد وكذلك حرص الجميع على عدم ازعاجه أو مضايقته. جيروم وضع إعلاناً في نفس المجلة، أشبه بالنداء الى الشبح كي يؤكد له الأخير أنه هو بالذات الذي يظهر في الصورة وليس أحد المتطفلين. بعث الشبح بإشارات خفية استغرق جيروم في فهمها سنوات، لتنشأ علاقة تواطؤ سرية بين الرجلين: كان جيروم يسهل دخول الشبح سراً من مداخل غير مراقبة للمقبرة. عام ١٩٩٣، يكشف جيروم الرسالة الأخيرة المتلقاة «أحدهم سيحمل الشعلة من بعدي». فهم أن الشبح، الذي يتوكأ على عصاه، رأى بدوره شبح الموت يقترب، وأنه بصدد اختيار خلف لاستمرار طقس الورد والكونياك.

* الهذيان، حرب العراق والنهاية
عام ١٩٩٩، كان الشبح على الموعد. كان هذه المرة يبدو يافعاً. ترك رسالة صغيرة بأنه ابن الشبح القديم، وقد عهدت إليه طقوس زيارة القبر. هنا أخذ الطقس منحى جديداً، يقول جيروم «يبدو كأن الشبح الصغير قد تعب من القصة بأسرها». عام ٢٠٠١، مباشرة قبل الـ Superbowl، وهو الحدث الرياضي الأعظم في البلاد، ترك الشبح رسالة يعد فيها أن فريق «غربان بالتيمور» (المسمى كذلك تكريماً للكاتب) سيهزم. ينتصر الغربان في المباراة ليمتعض جيروم الذي بدأ يلاحظ هذياناً غريباً في سلوك ورسائل الشبح: سترة فرو وكاسكيت رياضية، رسائل مثل «إن الذاكرة المقدسة والمكان حيث يرقد بو لا يتناسبان مع الكونياك الفرنسي» أو «أنا أرفض الحرب على العراق». اتخذ جيروم قراراً بوقف مساعدة الشبح اذا استمرت الأمور على هذا المنوال. في الوقت عينه، ولأسباب غير معروفة قد تتعلق بلفت الانتباه، يعلن سام بوربورا من منزل تقاعده، أن الزهور وزجاجات الكونياك والقصة بأسرها، سيناريو من اختراعه وتنفيذه، ليتم تكذيبه بسرعة.
عام ٢٠٠٩، تم الاحتفال بالمئوية الثانية لادغار آلان بو، كانت المرة الأخيرة التي ظهر فيها الشبح. ترك رسالة أخيرة زعم جيروم بداية أنه لم يعثر عليها ليعود ويعترف أنها أحزنته كثيراً. عام ٢٠١٢، يعلن الدليل جيف جيروم النهاية الرسمية لقصة الشبح الزائر لقبر بو. تحت تأثير ضغط الجمهور، الذي لم يعد يعرف ما ستكون عليه ليالي التاسع عشر من يناير، قررت «جمعية ماريلاند للتاريخ» (Maryland Historical Society) رعاية واطلاق كاستينغ لاختيار «الشبح الجديد». سيأتي هذا العام وفي كل عام، في الموعد ذاته، مرتدياً معطفاً طويلاً أسود ومنديل عنق أبيض. هويته بالطبع ستبقى مجهولة، وهذا أهم ما في الموضوع، لأنه حتى ولو مات الطقس الحقيقي، فالإثارة ستستمر.
يعكف الأكاديميون اليوم على دراسة نص عثر عليه في قبر شخص يدعى وليام ليف دو ماريلاند. يرد اسم ادغار آلان بو فجأة في النص المؤلف من صفحات أربع ليتبين في ما بعد أن وليام هذا كان على صلة بالكاتب، وأن بعض مقتنيات ادغار آلان بو قد وقعت تحت يديه. يتدرج مستوى النص من شذرات شعرية متواضعة في الصفحات الثلاث الأولى، ليصل في الصفحة الأخيرة الى قصة مكتوبة بنفس أدبي ساحر، حول وصفة طبية تقي الانسان من الموت. الدلائل تشير إلى أنّ قصة لادغار آلان بو شبيهة برسالة في قعر زجاجة التي ترجمها بودلير من قصصه العجيبة قد تم دفنها مع وليام دو ماريلاند في قبره ليعاد اكتشافها عام ١٩١٣. وصفة الخلود في القصة قد تكون قليلاً من الكونياك ممزوجاً ببتلات ثلاث زهور حمراء.

المراجع:

1. Jeffry Meyers, Edgar Allan Poe: Life and Legacy Cooper Square Press (September 5, 2000)
2. Reportage d›Elise Costa /Culture//Slate.fr