عنوان أيّ نص يشكّل مدخلاً رئيساً لتكوين لمحة عن الرؤية التي يحملها الشاعر. وهو، بشكل واعٍ ظاهر أو غير واعٍ باطنٍ، يختزن الملمح السحري للنص، ما يستدعي إعمال الفكر للقبض على الدلالات التي يختزنها. والعنوان في ديوان «لجمالك الوحشي» لمحمد البندر (دار الأمير)، يقود إلى سؤالين رئيسين حول الجمال وصفته الوحشية، وطبيعة النسبة بينهما.
الجمال في اللغة: الحسن الكثیر، وهو مصدر الجمیل، وما یُتجمَّل به ویتزیّن، وهو ضدّ القبح. وفي الاصطلاح: رقّة الحسن، وهو قسمان: جمال مختصّ بالإنسان في ذاته أو شخصه أو فعله، وجمال یصل منه إلى غیره. وذهب البعض إلى أنّ مفهوم الجمال لا یقبل التعریف. وعلم الجمال أو «الأستاطيقا»، علم معياري فلسفي، يدرس المبادئ العامة للموقف الجمالي الإنساني إزاء الواقع والفنون، ويحلّل المفاهيم والتصورات الجمالية.
والمتأمل في الرؤية الصوفية إلى الجمال، لا بد أن يقع على مفهومَي الجمال والجلال اللذين يتصف بهما الحق. وحقيقة الرؤية إلى الجمال لدى المتصوفة تتلخص في أن الخلق ظل الله، وأن جمال الخلق إنما هو من جمال الخالق.

ويقول رائد الأدب المقارن العربي محمد غنيمي هلال (1916 ــ 1968) في هذا المعنى «إن الجمال عند الصوفية قسمان: حقيقي وصوري. فالجمال الحقيقي صفة أزلية لله تعالى، وقد شاهده في ذاته مشاهدة علمية وأراد أن يراه في صنعه مشاهدة عينية، فخلق العالم كمرآة يشاهد فيها جماله عياناً (وهذا هو الجمال الصوري عند الصوفية).
فالعالم كله تعبير عن الحسن المطلق، والوجود كله صورة حسن الله ومظهر جماله، والتأمل في جمال الكون سبيل إلى الاهتداء إلى الجمال الحق». ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول بتأثر النظرة الصوفية إلى الجمال، على نحو من الأنحاء، بالنظرة الأفلاطونية التي تذهب إلى أن الحب هو حب الجمال، أو حب الكمال المطلق.
وبعيداً عن التفصيل في معنى «الوحشي» معجمياً، نسوق تعريفاً أولياً حتى تتسنى لنا مقاربة الدلالة من خلال التركيب الوصفي، أو الجمعي بين الجمال والوحشي. والوحشي كل ما ينسب إلى الوحش، والأخير في «مختار الصحاح»: حيوان البر الواحد، يقال أرض مَوْحُوشَةٌ ذات وُحُوش، وأَوْحَشَ المنزل أقفر وذهب عنه الناس. وتستوقف المتأمل في هذا التركيب («لجمالك الوحشي») جملة من الأسئلة أهمها: ماهية اللام؟ الكاف للتذكير أم للتأنيث أم لكليهما؟ الجمال الوحشي تعارض بمعنى الإشارة إلى مفهوم قبح الجمال؟ إشارة إلى مفهوم الجمال الصارخ المتمكّن الحضور؟ الوحشية بمعنى الجمال الأولي البدائي؟ بمعنى غير المتناسق، أي بلا معاييرَ ومقاييس (خلاف الجمال الاستطيقي)؟هذه المعاني كلها؟ لجمالك الوحشي يهدي الشاعر المجموعة كلها أم القصيدة بعينها؟ الكاف أخيراً باعتبارها الحبيبة فحسب، أم بوصفها الأنثى أهم رموز المتصوفة للدلالة على الذات الإلهية والجمال الإلهي، لأنها بحسب ابن عربي فيها الظهور الأتم والأكمل؟
في محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، نحاول رصد «شبكة» المصطلحات والرموز الصوفية في نص البندر.

الأنثى هي الظهور
الأتم والأكمل
للذات الإلهية


العبارة الأشهر في الاستعمال للدلالة على لغة الصوفية هي عبارة «الألفاظ الجارية في كلام الصوفية»، وهذا ما نجده لدى أبي نصر السراج في كتاب «البيان عن المشكلات» الذي شرح ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم، كالحق والفناء والبقاء والوقت والمقام واللوامع الخ... فيما ذهب القشيري إلى بيان معاني هذه الألفاظ بعد مقدمة قال فيها: «اعلم أن لكل طائفة من العلماء ألفاظاً يستعملونها، وقد انفردوا بها عمّن سواهم، كما تواطؤوا عليها لأغراض لهم فيها». ولم يشر ابن خلدون في باب التصوف في مقدمته بوضوح إلى المصطلحات الصوفية، لكنه تناولها لدى حديثه عن الشطح، فقال: «أما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس...».
يتبيّن ممّا تقدم أن لفظ المصطلحات أو الرموز (بالمعنى الاصطلاحي) لم يكن مستعملاً حتى القرن السادس، إنما الذي استعمل هو الألفاظ. وبعد تحليل سريع، يتبيّن أن اللفظ الصوفي المقصود يعني ما يعنيه المصطلح. والسؤال المطروح: هل نعتمد المصطلحات كرموز، أم أننا نعني رموزاً غير تلك المصطلحات المتعارف عليها لدى المتصوفة من قبيل الوقت والحال والمقام وغير ذلك؟ وفي معرض الإجابة، نقول إننا أمام ثلاثة ألفاظ: المصطلحات، الرموز، واللغة الصوفية. المصطلحات هي الألفاظ الجارية في كلام المتصوفة، فيما الرموز تعني أبعد ممّا يعنيه المصطلح من خلال التوظيف في النص الصوفي. وقد يكون المصطلح مستخدماً في النص بمعناه الاصطلاحي لدى المتصوفة، لكنه في النص الصوفي الحديث يستخدم كرمز له دلالة أوسع من تلك التي يعنيها المصطلح. أما اللغة الصوفية فتعني ما تعنيه اللغة بالمجمل من ألفاظ وتراكيب، وتؤدي كلها ما يؤديه الرمز.
وعليه، فإننا، في نص البندر، أمام مصطلح ورمز ولغة شعرية صوفية. ومن المصطلحات التي تحولت إلى رموز: السطوع، الكأس، الظن، غار، قراءات، الظل، السراب، الغياب، الغراب، العنقود، عناق الشاربين، حانوت الخمرة، لغة الشراب، قدس، طقوس، العاشقون، العشق... وفي تصنيف سريع لهذه الرموز، نراها تنتمي إلى ثلاثية الرموز الصوفية الأم، وهي الطبيعة والأنثى والخمر.
فالطبيعة، كما يراها الصوفي، هي في مظاهرها الكثيرة انكشاف للألوهية المحايثة الباطنة. وهذا ما يعبر عنه بالكثرة في عين الوحدة. وكل مظهر من مظاهرها يحيل إلى صفة من صفات الذات الواحدة. فالحمائم، مثلاً، تشجيهم وتحرك فيهم شوقهم إلى الكينونة التي اعتبرت عندهم وطن الأوطان. والعرفانية الصوفية احتفت من الحيوان بالبقرة التي أشربت رمز النفس المستعدة للرياضة، ومن عالم الطير رمزت بالعنقاء إلى الهباء الذي فتح الله فيه أجسام العالم...
أما الأنثى فقد اتخذ المتصوفة منها رمزاً مرتبطاً بالحب الإلهي، بوصفها تمثّل الجمال المطلق. ويتضح ذلك صراحاً في موقف ابن عربي من النساء باعتبارهن تمثيلاً للجمال الإلهي، إذ إن الله ــــ الحق ــــ «لا يشاهد مجرداً عن المواد أبداً، لأنه بالذات غنيّ عن العالمين. فإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعاً ولم يكن الشهود إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله». ولهذا، نحا المتصوفة إلى التغزّل بهن، ولكن ليس على نحو دلالي معجمي، بل إشارة إلى معانٍ خاصة يصطفيها الصوفي بحسب وجده وذوقه.
وأخيراً، لا شك في أن للخمر ومتعلقاتها (سكر، شرب...)، بوصفها رموزاً، مكانة بارزة في الشعر الصوفي، إذ ماثل المتصوفة بينها وبين الحالات التي تعتريهم أثناء طيّ العوالم والمقامات، فكانت رمزاً من رموز الحب الإلهي الذي يبعث على الوجد الصوفي.