في كانون الأول (ديسمبر) عام 1944، ألقى أحد كبار مجرمي الاستعمار البريطاني، ونستون تشرتشل خطاباً في مجلس العموم قال فيه، ضمن أمور أخرى: «كما تبين لنا، فإن الطرد هو الطريقة الأفضل والأكثر ديمومة... ستتم عملية تنظيف كاملة». أما الرئيس الأميركي روزفلت، فقد أخبر أنطوني إيدن، رئيس وزراء بريطانيا الفاشل، والشخصية التراجيدية بطل هزيمة السويس: «ستتم إزالة البروسيين من شرقي بروسيا بالطريقة ذاتها التي تمت فيها إزالة اليونانيين من تركيا عقب الحرب». وبعد ذلك بسنوات، علق مهندس تقسيم شبه القارة الهندية اللورد مونتباتن الذي قتلته منظمة الجيش الجمهوري الإرلندي على تلك الجريمة، التي قادت إلى طرد نحو 15 مليون مواطن من أوطانهم، إضافة إلى نحو مليون ضحية، ومآسي لا نهاية لها، علّق بالقول: «لقد كانت أكبر عملية إدارة (administration) في التاريخ. أما في بلادنا، في بلاد الشام، فإن عمليات الطرد والتقسيم لا نهاية لها.

الاستعماران البريطاني والفرنسي، عملا على تقسيم المناطق التي احتلاها واستعمراها، تحت تعريف عنوانه «الانتداب» وعلى تقسيم مستعمراتهما الجديدة في بلاد الشام والعراق، ثم على تقسيم كل منها في عملية لا نهاية لها، طبعاً دوماً حسب لورا ربسون مؤلفة كتاب «دول الفصل ـــ الترحيل والتقسيم وصناعة الشرق الأوسط» (States of separation: transfer, partition, and the making of the middle east ـــ يحوي بعض المصورات والخرائط ـــ جامعة كاليفورنيا ــ 2017).
كما طرح الاستعمار الفرنسي تقسيم الدولة السورية «الجديدة»، التي هي قسمت أصلاً من بلاد الشام إلى لبنان وسوريا وفلسطين وعبر الأردن، إلى دويلات مذهبية درزية وسنية وعلوية.
بناء على الطرح الاستعماري الذي دعا إلى تأسيس دول إثنووَطنية، فقد عملت القوتان على فرض التقسيم الجديد، وفق خطوط إثنية ودينية ومذهبية وعرقية، حقيقية كانت أو وهمية. على سبيل المثال، استجدّت مشكلة السريان في بلاد الشام وفي شمالي العراق، الذين كانوا ضحية مجازر تركيا أتاتورك، فطرح المستعمر ـــ حكومات وأفراداً ــ خطة ترحيلهم (ترانسفير) إلى جهات بعيدة كل البعد عن أوطانهم، حيث «عثروا» لهم على «أوطان» جديدة لهم في البرازيل وجنوب إفريقيا وتمبكتو وغويانا البريطانية.
المستعمران البريطاني والفرنسي طرحا في الوقت نفسه ترحيل الأرمن إلى سوريا (ولبنان) وتوطينهم في مناطق حدودية، ليشكلوا حزاماً استعمارياً كفيلاً بإثارة المشاكل على نحو دائم (وفق تصورهم طبعاً) ما يمنح لندن وباريس ذرائع التدخل، دوماً بحجة الدفاع عن «الأقليات». أما الدولة التركية الأتاتوركية، فقد طرحت ترحيل كل الأرثوذكس إلى اليونان، وهو ترحيل وفق خطوط دينية. إذ طالبت بضم سكان مرسين العرب الأرثوذكس إلى قائمة المرحلين إلى اليونان. ووجب عدم إهمال قيام بريطانيا بخلق كيانات هزيلة ومحميات خلقت على نحو مصطنع في الخليج الفارسي، تناسب تجمعاً عشيرياً مرتبطاً بها وخادماً لمشاريعها الاستعمارية في المنطقة، وهو ما حاولت تنفيذه في اليمن الجنوبي، لكنها أخفقت بعدما تمكنت جبهة التحرير من هزيمة العملاء. الأمر ذاته فرضه الاستعمار الجديد حديثاً على دولة يوغسلافيا حيث شجع تقسيمها إلى صربيا وكرواتيا والبوسنة ومقدونيا وسلوفينيا، ومن ثم الجبل الأسود «مونتنيغرو»، ومن ثم إعادة تقسيم بعض المنتوج الجديد، دائماً وفق خطوط إثنية ودينية ومذهبية وعرقية، حقيقية كانت أو وهمية.

الأرجنتين وشرقي إفريقيا كانتا الفضاء الأول لمشروع تأسيس وطن يهودي/ صهيوني

وكنّا عرضنا في هذا المنبر مؤلفاً عن مشكلة بورما (مينمار) والروهينغا، وجذوره في ممارسات الاستعمار البريطاني المولع بالتقسيم الإثني والعرقي والديني والمذهبي. والطرح الحالي الآتي من واشنطن وكواكبها الأوروبية لتقسيم سوريا والعراق ليس سوى فصل جديد في حركة استعمارية مستجدة بدأت منذ انتهاء الحرب الإمبريالية الأولى، وتحلل الإمبراطورية العثمانية. الهدف، ليس مساعدة ما يسمى «الأقليات»، وإنما استخدامهم ذريعة للتدخل المستمر في شؤون المستعمرات السابقة، والحفاظ على النظام الاستعماري، لكن بشكل «جديد». ولا ننسى أن التقسيم وفق أسس عرقية هو ما قاد إلى نشوء نظام التمييز العنصري في جنوبي إفريقيا وروديسيا سابقاً «زيمبابواي». الهدف الآخر من عمليات الترحيل المقترحة والمنجزة، هو خلق دول أو كيانات سياسية مصطنعة عازلة (كما هو حال أفغانستان التي اجترحها الاستعمار البريطاني لتكون دولة عازلة بينه وبين روسيا القيصرية الساعية دوماً لنيل إطلالة على البحار الدافئة، كما يقال)، تساعد الاستعمار في ديمومة احتلاله وتأثيره في مختلف بقاع العالم. ومن الأمور الواجب لفت الانتباه إليها أن عمليات الترحيل القسرية تمت برعاية الأداة الاستعمارية «عصبة الأمم» كما تتم حالياً برعاية اسمية للأداة الاستعمارية الجديدة، أي «الأمم المتحدة».
ولا يمكن في هذا العرض ذكر عمليات الطرد والتهجير القسري الذي قام به الاتحاد في السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية في غربي البلاد، ومن ثم التهجير القسري لنحو 12 مليون ألماني من أوطانهم ومدنهم وقراهم وحقولهم في بروسيا الشرقية وإقليم السوديت. كما وجب عدم نسيان قيام ألمانيا النازية بترحيل ألمان إلى ما ادعت أنها أوطانهم الأصلية في شرقي أوروبا، وتوطينهم هناك تمهيداً لاستعمار المنطقة بحجة الحاجة إلى مجال حيوي. النتيجة هي استمرار المشاكل في بقاع كثيرة في العالم المستعمَر، في إفريقيا وآسيا على نحو خاص.
مؤلفة الكتاب لورا ربسون وهي أستاذة مساعدة في مادة التاريخ الحديث للشرق الأوسط في «جامعة بورتلاند»، أولت قضية فلسطين اهتماماً خاصاً حيث استعرضت المراحل التي مرت بها مختلف الدعوات لتأسيس وطن يهودي/ صهيوني، في فلسطين، مذكرة بأن الأرجنتين وشرقي إفريقيا، شكلت المحطة الأولى التي اختيرت فضاءً لذلك المشروع الاستعماري ضمن مشروع الترانسفير أو الترحيل. لكن ذلك اقتضى أولاً وقبل كل شيء عد يهود (الأصح: إشكناز) القارة الأوروبية أقليات، وهذا ما عدّته الكاتبة ــ وعن حق ـــ مساهمة فعالة في عزلهم وبالتالي إقناعهم بأنهم لا ينتمون إلى أوطانهم، ومن ثم تهجيرهم، إلى فلسطين.
لنتذكر هنا قول اللغوي الألماني الإشكنازي الشهير، أستاذ الأدب في «جامعة دريسدن»، فيكتور كلمبرر (1881-1960) في مؤلفه الفذ «لغة الإمبراطورية الثالثة» (بالألمانية: الرايخ Lingua Tertii Imperii ــ صادر عام 1944) إن هتلر تعلم لغته العنصرية من هرتسل. واضح أن هرتسل تعلم لغته العنصرية من الاستعمار البريطاني، وتحديداً من أستاذه ومعلمه أسقف القنصلية البريطانية في فيينا، فالصهيونية المسيحية ولدت في بريطانيا في نهايات القرن الثامن عشر على إثر الثورة الفرنسية، وهذا الجانب أهملت الكاتبة ضمه إلى عملها المهم للغاية.
في مرحلة لاحقة، وعندما أخفقت محاولات التهجير الوحشية والهمجية والدموية في كثير من الأحيان، لجأت بريطانيا إلى حل استعماري آخر، وهو التقسيم، والذي طرحته بخصوص فلسطين (ومن هنا فإن ما يسمى تضليلاً «حل الدولتين»، هو طرح استعماري في المقام الأول والأخير)، ثم أكملت الحركة الصهيونية العمل الإجرامي بتهجير القسم الأكبر من الفلسطينيين، بالتآمر مع أنظمة سايكس بيكو، وفي الوقت نفسه تهجير اليهود العرب من أوطانهم في شمالي إفريقيا وسوريا والعراق ولبنان واليمن. كما وجب ملاحظة عملية توطين السريان في شمالي العراق بالقرب من الكرد، ولسنا بغافلين عن المشاكل المستعصية بين الطرفين إضافة إلى اضطهاد كرد اليزيديين في برزانيستان، وهو موضوع قائم بذاته.