ترجمة: رشيد وحتيالشاعر يتعامل مع الزمن؛ ذلك أن كل تلك الإكراهات العروضية وتعقيدات الموسيقى والصوت ليست سوى طرائق لقياس الزمن، قطرة قطرة، إثر انسيابها من بين أصابعه وتبخرها هباء." فالقطرة التي لا تستحيل نهرا تلتهمها الرمال"، كما يرد لدى غالب في إحدى غزليات. حينا بعد حين، نكتشف أننا عندما نكتب، إنما نتذكر حقا، لا الماضي بحد ذاته، لا شخصا أو مكانا، مشهدا أو صوتا أو أغنية، وإنما نتذكر، أولا وأساسا، كلمات.

الكلمات التي تكمن في ذكرى ما، وترفق بأصداء مكان وزمان ما. لكن مشكلة الشاعر لا تكمن جوهريا في المفردات، بل في كيفية أخذ المعجم القديم ووضعه في سياقات جديدة، في بنى جديدة يمكن أن تتحدث عن حاضرنا، وتستجلي ما يجري الآن. فوظيفة الذاكرة ليست بسيطة إذن: علينا معرفة الكلمات وما تعنيه، ولكن علينا أيضا نسيان السياقات حيث وجدت.
لهذا قد يحدث للمرء، أثناء الكتابة، في منتصف رحلته أو مع اقتراب نهايتها، أن تكون كل مدة رحلته صوب إيثاكا فقط لتركها من أجل استعادتها.
كانت ﯕِـرْتْرُودْ سْتَايْنْ من وضع الأمور في نصابها حين قالت: "ينبغي أن يكون للكتاب وطنان، ذاك الذي ينتسبون إليه، والآخر حيث يقيمون حقا. الثاني رومانسي، منفصل عن ذواتهم، ليس حقيقيا، ولكنه حقيقة هناك.. أكيد أن الناس يكتشفون أحيانا وطنهم الخاص كما لو أنه الآخر ".
ثمة حكاية تنسب إلى الرومي مفادها أن رجلا ذهب إلى مقام معشوقه، ودق الباب. فسأله صوت من الداخل: من هناك؟ أجاب الرجل: "إنه أنا". "هذا المكان لا يتسع بما يكفينا، أنا وأنت"، رد الصوت. بقي الباب مغلقا، فانصرف الرجل، محتارا ومرتبكا، مستغربا هذه الكلمات، متأملا معانيها الخفية. بعد سنة من العيش في عزلة، محروما من أبسط ملذات الحياة، قرر الخروج أخيرا ودق الباب ثانية. سأله نفس الرجل من الداخل: "من هناك ؟" فرد: "إنه أنت". فانفتح الباب.
بخصوص الصوفي، طبعا، لا بد من اجتياز سلسلة من التمارين الروحية الصارمة كي ينفتح الباب، وهكذا يستطيع دخول حضرة المعشوق، وفق تسمية المتصوفة، أو الله. مهمة الشاعر، المقتصرة أدواته على الكلمات، مختلفة. فالباب، بالنسبة له، يبقى مغلقا حتى ينجح، من خلال تفان تام، في ولوج سر اللغة عينها. ولأن الفن مديد والحياة قصيرة، فليس ثمة من شاعر، لوحده، استطاع استكمال هذه المهمة الرائعة تماما، بما في ذلك العظام منهم. فما يجري هو أن كل شاعر، طوال التاريخ، بوعي أو عن غير وعي، يواصل حقا عمل سابقيه من الشعراء، فيما يشبه قصيدة لا تنتهي أو سلسلة حروف تمتد حتى الأبدية، أو حتى نهاية الزمن. كتب مِيؤُوتْشْ ذات مرة قصيدة تعبر عن الأمر بدقة، قصيدة تحكي عن رحلة غريبة لشعراء عبر العصور، كعصابة من البشر اختاروا طريقهم، تنزع نحو قول الحقيقة، وإن بطريقة حالمة وشبه طفولية.
وفي نفس المنحى، يستعيد بورخص، في دراسته "وردة كولردج"، فكرة مماثلة: أن كل الشعراء يشتغلون حقا على ذات الملحمة القديمة التي تشكل كل قصيدة مجرد شذرة منها. أعجبتني قصيدة ميؤوتش كثيرا، بحيث ترجمتها للعربية ونشرتها في جريدة يومية تصدر في لندن، حيث كان الحائز على جائزة نوبل في قراءة شعرية بمهرجان لندن للشعر. كان الشاعر الكبير مفتونا بهيأة الحروف العربية، وسألني لهفانا أي قصيدة هذه؟ فقلت له إن عنوانها "تقرير"، وإنه، من الواضح، مرفوع إلى الرب، أو إلى ذات يدعوها "أيها الأسمى" فشع وجه ميؤوتش: "أي نعم، طبعا". ثم أردف: تعرف، لقد راسلته بعدة تقارير طوال أعوام، لكنه لم يجبني قط".
لم أستطع مد يد العون بالقول للشاعر الكبير: "من يدري، لعله يفعل ذات يوم".