لا يهمنا كثيراً تصنيف روبرتو بولانيو (1953 ــ 2003) في جيل أدبي مُعيّن، ليس فقط لأنه تشيلي عاش في المكسيك كشاعر وأسّس جماعة أدبية صغيرة، ثم انتقل إلى إسبانيا وتحوّل إلى كتابة الرواية... بعيداً دائماً عما يُمكن أن يُشبهه أو يتقارب معه حسب تصنيفات سِيَر الكتّاب... لكن دعنا نقول إنّه لم يُشبه سوى نفسه، في حياته وكتاباته، ولم يكُن يحتاج إلى الوجود في مكان مُعيّن حتى يفعل ذلك أو يتطوّر.
يُمكننا أيضاً أن نقول إنه التقى الشاعر تشيلي الأشهر نيكانور بارا الذي تأثر به، وإنه لم يُحبّ نيرودا، وسخر من ماركيز ويوسا، قائلاً إنهم كتّاب لا بأس بهم ولكنهم يصادقون الرؤساء بشكل أفضل مما يكتبون، وإنّ على الناس الانتباه أكثر لباييخو وأونيتي وخاصة كورتاثار. وقال عن بورخيس الذي تأثر به جداً، إنه: رمانة الميزان في أميركا اللاتينية. دائماً ما كانت آراء بولانيو ساخرة ودقيقة وحادّة. والأكيد أن هنالك عشرات الآراء الأخرى عن كتّاب لم نسمع بهم من قبل: جيل «البيتنيك» اللاتيني، ورفاقه في الحركة الشعرية التي أسّسها، وعشرات الأسماء من الحركات الشعرية التي عاصرها في أوروبا وأميركا.

ليلات سكرٍ تنتهي بمخططات فاشلة عن إفساد قراءات شعراء مثل أوكتافيو باث واختطافه

بولانيو عرَف حركة الشعر في «الجامعة الوطنية للمكسيك» في سنوات مراهقته، عبر التردّد عليها وعلى ورشاتها الأدبية لأنّه ترك الدراسة باكراً. صار تروتسكياً بعد ذلك، يسافر إلى تشيلي سنة 1973 ليحضر حُكم سلفادور ألليندي. يصل قبل الانقلاب بأيام، لكنه يُسجن – يُشكك كثيرون في القصة ــ هناك، لا يحصل له شيء وفق ما قال. يقرأ فقط في مجلة إنكليزية مقالاً مثيراً عن منزل بحري كان يملكه ديلان توماس، الشاعر السكير، الفتى السمين ذو الشعر المنفوش الأشقر، الشاعر المتوحش القادم من ويلز الذي سيموت مُبكراً – في سن 39 ــ في السنة نفسها لولادة بولانيو (1953) وبالمرض نفسه: تلف الكبد بسبب الكحول. يخرج بولانيو من السجن ويعود بعد وقت قصير إلى المكسيك، شاباً في العشرين. سنفترض أنهّ عاد في نهاية 1973 بما أن بينوشيه قام بانقلابه في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه. سيسير في شوارع مكسيكو، في الذكرى العشرين لموت ديلان. سيؤسّس مع شاعر مكسيكي حركة أدبية اسمها «ما تحت الواقعية» وتصير له سمعة الشاعر الذي يُفسد كل الحفلات. نقرأ في «المحققون المتوحشون» عن ليلات سكرٍ تنتهي بمخططات فاشلة عن إفساد محاضرات وقراءات شعراء مثل أوكتافيو باث واختطافه، عن دورات ليلية إلى تمثال الجنرال باتشيكو (جدّ الشاعر خوسيه إيميليو باتشيكو) والتبوّل عليه... ثم يأتي مانيفستو الحركة التي تتكوّن من شعراء لا يتجاوز أكبرهم الثالثة والعشرين. المانيفستو الذي نقرأ فيه تلك الجملة الصادمة: «حلمنا باليوتوبيا واستيقظنا ونحن نصرخ». يُصدر بولانيو كراسة شعرية، ويواصل الكتابة والتمزيق وتضييع الأوراق بلا توقف، يسافر إلى السلفادور ويلتقي بالشاعر روكي دالتون الذي كان وقتها قد نجا من الإعدام أكثر من مرّة، قبل أن يقتله رفاقه في «حركة التحرير الشعبية الماركسية». يعود إلى المكسيك ثم يسافر قبل نهاية عقد السبعينيات إلى أوروبا، مُقرراً أن يمضي في مشروعه الأدبي هناك.

الكتابة بدل الانتظار

يواصل بولانيو التسكع بين جنوب فرنسا وإسبانيا، قبل أن يستقر في بلدة بحرية صغيرة بالقرب من برشلونة اسمها بلانيس، ربما تأثراً بما قرأه قبل سنوات في سجن تشيلي حول المنزل البحري لتوماس ديلان في ويلز. حياة جديدة، منزل قريب من البحر. يعمل في النهار في أعمال صغيرة، حارس ليلي وغاسل أطباق، وبائع في بقالة وجامع قمامة... ويكتب في الليل. يتحوّل إلى النثر من دون أن يترك الشعر، يكتب روايات قصيرة وقصصاً (نشر أكثر من مجموعة قصصية)، لكنه لم يبدأ في نشر الروايات التي ستصنع شهرته إلا مع بداية التسعينيات، عندما يولد ابنه ويترك هو نمط الحياة البوهيمي ويلتزم مع دار النشر المهمة «آناغراما». هنا تبدأ المرحلة الأكثر إنتاجاً في حياته، وتتحقق إحدى أشهر مقولاته: «الكتابة بدل الانتظار»؛ من خلال كتابة «نجمة بعيدة» (1996)، و«الأدب النازي في أميركا» (1996)، و«مكالمات هاتفية» (1997)، و«المحققون المتوحشون» (1998)، و«ليل تشيلي» (2000) والأعمال التي كتبها خلال عِقدي الثمانينيات والتسعينيات، وستصدر لاحقاً بعد موته سنة 2003، على رأسها روايته الأضخم والأشهر «2666». كتب بولانيو الرواية لتُنشر في خمسة أجزاء، كتاب يصدر كلّ عام، كي يضمن حياة عائلته من بعده، لكن تسوية بين العائلة والناشر أخرجت الكتاب في ما يقارب 1500 صفحة، أي ضعف حجم روايته الضخمة الثانية «المحققون المتوحشون». خلال التسعينيات، وبجسد منهك وكبد قد أتلفه الكحول، صنع بولانيو فنّه وشهرته، فكتاب «الأدب النازي في أميركا» يُعدّ تحية لعمل الأرجنتينيين بورخيس وخوليو كورتاثار في الأنسكلوبيديات والأنطولوجيات المتخيّلة التي كتباها. وعلى هذا المنوال، سطّر بولانيو في كتابه هذا ما يقارب ثلاثين سيرةً لكتّاب متخيّلين من الأميركيتين، شعراء وروائيين وكتاب سياسيين، من كل بلدان القارتين ومن كل الخلفيات والطبقات الاجتماعية، كلّهم من أقصى اليمين.
كانت مرحلة المكسيك مهمة في حياة بولانيو وأدبه، ومن قلبها سيطلع أحد أهم كُتبه: «المحققون المتوحشون». نجد في الرواية قصة حركة شعرية شبيهة بـ«ما تحت الواقعية»، بل شخصية تشبهه اسمها آرتورو بيلانو. تشكل الرواية عالماً كاملاً ممتداً من بداية السبعينيات حتى التسعينيات، سيرة للشعر والسياسة والعنف والبحث عن بشر وزمن ضائعين. قرابة الألف صفحة من الجماد والبشر والكلمات يُغلفها الحزن والعلاقات الإنسانية المعقّدة.

«لا تخض برفقٍ في هذا الليل البهيم»

انطلقت شُهرة بولانيو بعد وفاته، وخاصة بعد ترجمته إلى الإنكليزية في أميركا. صار نجم الكتابة اللاتينية الجديد. في فرنسا أيضاً، ترجمت دار «كريستيان بورغوا» كل أعماله الشعرية والنثرية، وتواصَل نشر المخطوطات التي تركها. سيرة هذا الشاعر التشيلي الذي صار روائياً في سن الأربعين، ونشأته بين جنوب وشمال قارة أميركا اللاتينية، وترحاله ومغامراته، وتحوّلاته من شاعر بوهيمي ترفضه دور النشر وتخاف تصرّفاته والتزامه السياسي إلى أب عائلة يكتب الروايات ليُعيل ولده وابنته، وفي الوقت نفسه لا يكتُب روايات مطارات، بالعكس يمضي في هذا الفنّ إلى آخره، يشرب ويدخن بشراهة حتى يتآكل جسده ويموت مبكراً... كل هذه الأشياء صنعت أسطورته. في الوقت نفسه، على القارئ العربي الذي يكتشف هذا الكاتب مترجماً في السنوات الأخيرة، ألا ينساق وراء الأسطورة على حساب ما كتبه بولانيو، شعراً ونثراً. وفي آخر الأمر، قد لا نهتم بقراءة رواية من 1500 صفحة ونترك كُتباً أصغر حجماً وأكثر إتقاناً للكاتب نفسه، أي أن أسطورة الكاتب وترويج الدار لا يجب أن يقتلا فينا القارئ الذي يبحث قبل كل شيء عن متعته الخاصة في الكُتب. عندما نفعل هذا نلتفت إلى حياة هذا الكاتب الذي عاش مثل رصاصة، كأنّه اتّبع مثل المُسرنم نصيحة توماس ديلان الأشهر: «لا تخُض برفقٍ في هذا الليل البهيم».