أن يخرج الشعر من كونه وصفاً لشعور ما، أو تصويراً لتفصيل عاطفي لدى الشاعر، إلى كونه خلقاً لمجموعة من الأحداث والمواقف، هو ما ذهب إليه الشاعر ت. إس. إليوت (1888 ــــ 1965)، في ما عبّر عنه بـ «المعادل الموضوعي» (بحسب غالبية الترجمات العربية)، حتى ذاع بوصفه مصطلحاً نقدياً لا تزال أصداؤه ترجّ النقد الأدبي العربي الحديث. وبصرف النظر عن دراسة نشأته، والبيئة الأنكلو ــــ أميركية التي تكامل فيها ونما، ومرجعياته المتعددة المتصلة بالواقعية الاشتراكية، وما له وما عليه، إلا أن كثيراً من النصوص العربية عولج نقدياً وفق هذا المصطلح الذي عرّفه إليوت في مقالته الشهيرة «هاملت ومشكلاته»، المنشورة عام 1919، بقوله: «إن الطريقة الوحيدة للتعبير عن الإحساس في قالب فني تكمن في إيجاد معادل موضوعي لهذا الإحساس، وبتعبير آخر إيجاد مجموعة من الموضوعات أو موقف أو سلسلة من الأحداث التي تشكل وعاء لهذا الإحساس الخاص، بحيث يتجلّى بمجرد أن تعرض تلك الموضوعات أو الأحداث أو المواقف، مقدمةً في شكل تجربة حسية...». على أن هذه المواقف والأحداث والرموز لا تؤدي وظيفتها مستقلة، إنما تتضافر لتكوّن مشهدية كاملة تثير تمام العاطفة المتكافئة مع عاطفة منتِج النص.
لا شك في أن النص العربي الحديث ما انفكّ يستخدم الرمز والأحداث والمواقف والصور والشخصيات الأقنعة، فتُثار في المتلقي انفعالات ومشاعر تشكّل معادلاً موضوعياً لانفعالات الشاعر وأحاسيسه. وينفذ الناقد، من خلال مجريات النص، الى البنية الشعورية العميقة لديه. وها نحن أمام نصوص جديدة على الساحة الشعرية العربية كانت ــــ من خلال الأحداث والمواقف فيها ــــ واقعاً مادياً متحققاً (realization في المصطلح النقدي الأوروبي)، يمثّل معادلاً موضوعياً لعواطف لا يعبّر عنها الشاعر صراحةً، إنما بما يثيرها من بيئة خارجية متحققة في النص. وعليه فإن نصوص الشاعر كميل حمادة، في مجموعته «ما لم يقله الله» (دار «أبعاد»، 2017)، تمثل نموذجاً حديثاً يحسن الوقوف عليه، والغوص في مضامينه الثرّة، بوصفه سلسلة من المواقف والأحداث جاءت وفق الفيض الشعري الذي ينحو إلى الإلماح والرمز والإشارة إلى العواطف والمشاعر، فضلاً عن الأفكار والرؤية، لا إلى التصريح والعبارة. يقول حمادة في قصيدة «عمرها»: عشرون أغنيةً/ وعشر قصائد/ وثلاث نوتاتٍ/ وحقلُ مواجدِ/ هو عمرها تلك الجميلة في دمي/ قل كيف تُختصر الورود بواحدِ؟». في هذا النص القصير نسبياً، لم يلجأ الشاعر إلى التعبير المباشر عن حبه من خلال العبارات والإشارات التقليدية، فضلاً عن أننا لا نقع على أي لفظة من معجم الحب. فهو قد أزجى جملاً تمثل مواقف أو صوراً لا تُحمل البتةَ على محمل التعبير عن عاطفته، إلا حين ترتسم أمامنا ياء المتكلم في لفظة دمي. عدد من الأغنيات، عدد من القصائد، من النوتات، وسلسلة من الأعداد في نظم شعريّ له خصوصيته تثير فينا، نحن المتلقّين، استجابةً انفعالية تشاكل انفعاله العاطفي. فكان النص، بجملته، معادلاً موضوعياً لعاطفة الحب لديه، من دون استخدام للفظ أو لحقل معجمي يشي بهذه العاطفة صراحةً، تماماً كما بيّن إليوت عبثية الحياة حين قارب مقطعاً من قصيدته «أغنية حب ج. ألفريد بروفروك»: «لقد أفرغتُ معين حياتي بملاعق القهوة»، لتتجلى تفاهة الحياة التي قضاها يوماً إثر يوم، وهي خالية من أي إنجاز، أو تحقيق هدف.

يمثل الماء معادلاً موضوعياً لجملة من عواطف الشاعر ورؤيته، بوصفه مُشاكِلاً للحياة
فعمره قيس بملاعق القهوة، وأي عمر هذا؟ جملةٌ واحدةٌ، بهذه البساطة، كانت كفيلة بأن تشكل معادلاً موضوعياً لشعور اليأس وعبثية حياته، وبالمرارة التي يشعر بها. وهي المرارة نفسها التي شعرنا بها نحن عند قراءتنا لهذا المقطع، لأن المشاعر المجردة، كما ذهب إليوت، لا يمكن أن تعبّر عن جوهر الحقائق الكامنة. والسبيل الأمثل للتعبير عنها لا يكمن في التعبير الصريح، وإنما البحث عن مقابلٍ مادي متحقق لهذه المشاعر.
وفي عملية إحصائية لبعض الكلمات التي تحولت إلى ظاهرة في نص كميل حمادة، بمعنى خروجها من ثوبها المعجمي إلى دلالة أعمق عُبّر عنها نقدياً بمعنى المعنى في النقد القديم، وتحولت إلى رموز في مفهوم المعادل الموضوعي، نرى أن الشاعر حشد بعضاً منها في نصّه لتكون معادلاً موضوعياً لعمقه الشعوري، بشكل واع أو غير واع، من قبيل رمز «الماء» الذي افتتح به إهداءه «إلى أبناء الماء...»، واستخدمه كثيفاً في عناوين قصائده: وراق الماء، ابن الماء، شيخ الماء، نهران، ثالوث الماء، طفل الماء، في كفي المياه، قهوة الماء...، فضلاً عن متون القصائد التي انتشر فيها حقله المعجمي (الصفصاف، الورد، الري، النهر، المطر، البحر، الغيم، السحاب، الظل، الفيض، الأنداء، ترشح، المياه، العطش، الغريق...)، فكان الماء مقوّماً من مقومات الأحداث والمواقف والصور، ورمزاً متضافراً مع الرموز الأخرى. والتأمل، من دون كبير عناء، في ظاهرة تكرار هذا الرمز والمشهديات التي تكوّنت منه، يقودنا إلى أن الماء يمثل معادلاً موضوعياً لجملة من عواطف الشاعر ورؤيته، بوصفه مُشاكِلاً للحياة. فالماء له حاكميته على هذه المشاعر والانفعالات. والشاعر أفصح عن الانتماء إليه، فهو ابنه حيناً، ووراقه حينا آخر، وطفله تالياً. الماء شيخه الذي يرشده في سيره وسلوكه الشعري، ولا عجب في ذلك وهو طفل هذا النهر ــــ الحياة (نهر العاصي) الذي يجسّد كل جمال في عينيه، ويشكل معادلاً موضوعياً لحياته ولشعريته في رؤيته. يقول حمادة في قصيدة «أغنية إلى لوركا»: «إحمل في كفّك عينيك وفي القلب الأصداءْ/ وامضِ/ مثل العصفور المبتلّ ارتجفَ من الأمطارِ/ ونشوان التغريدْ/ إمض للحانة حيث حنين الماءْ...». في هذا المقطع طائفة من الجمل الإنشائية الأمرية التي ينشئ بها الشاعر مواقف في المتلقي، الآخر، ولكنها في عمقها دعوة إلى نفسه. يغادر الشاعر ذاتيته وأناه، ظاهراً، مشكّلا مواقف تقودنا إلى تمثل موقعية الماء في عمقه الشعوري والرؤيوي، «حيث حنين الماء». وهذا المقطع المكون من خلال مجموعة من الانطباعات الحسية بما شكّله من وقائع خارجية هو ما أثار فينا المشاعر الحقيقية، وليس التعبير المباشر عنها، وبذلك كانت هذه الوقائع التي تآلفت في منجز فني هو النص، هي المكافئ المادي للحالة الذهنية والشعورية لدى الشاعر الذي يقول في قصيدته «ثالوث ابن الماء»: «أنا طفل هذا الماءِ والنهر والدي/ وصفصافةُ أمي بعمر الأوابدِ/ وما زال هذا الماء يعجن طينتي/ رغيفاً ندياً في جفاف الموائدِ/ ويخبرني: كن حيث شئت مصلّيا/ فكل ضفاف الماء صارت معابدي/ لأنك يا نهر المواعيد والدي».
* شاعر لبناني