لندن | في التسجيلات فإن صوت المغني البريطاني ريشارد دوسن (35 عاماً) مميّز بلا شك، لكن عندما يؤدي أغنياته أمام جمهوره، يبدو محلقاً في آفاق بعيدة متقاطعة بين الأزمنة العتيقة، وأزمات الوجود المعاصرة والإحساس المضطرب بالعالم من حوله، ليتحول غناؤه مختلطاً بالكلمات اللاذعة إلى شيء أشبه بهلوسات حلم قد تراه بينما أنت تائه ليلاً في غابة إنكليزيّة كثيفة.
دوسن يعتبر نفسه أولاً مؤلفاً لكلمات الأغنيات، قبل أن يكون موسيقيّاً وعازفاً ومغنياً. وهو يستل كلماته وزوايا موسيقاه الحادة من ساعات طويلة يقضيها في المتاحف المحليّة الصغيرة والمكتبات العامة مقلباً صفحات التاريخ المهمل عن أصول الحكايات الشعبيّة وتقاليد الغناء الشعبي الإنكليزي التي لا يعرف لها مؤلفون، ومستمعاً إلى اسطوانات موسيقات الجاز التقليدي والكلاسيكيّات. هذا البحث المضني يؤتي دائماً ثماراً عجيبة غريبة كما علبة «كوكا كولا» عصريّة لكنّها ذات روح: فهو يغني مثلاً عن «الباراسيتامول» أو الرحلات المدرسيّة أو العائلات المفككة في أجواء مدينة نيوكاسل الإنكليزيّة المعاصرة، لكنك ما تلبث أن ترى خيولاً مسروقة، وقلاعاً مهيبة وأوغاداً من مناخات العصور الوسطى الكئيبة والمشائمة والعنيفة والمفتقدة للأمل. «هو الظلام الذي يجمع بين أيامنا الحاضرة، وتلك الأيام الغابرة. إنه الظلام». يقول دوسن عن ذلك.

إلى جانب أبحاثه التاريخيّة،
يردّ موسيقاه إلى تأثيرات صوفيّة

يصنّف كثيرون دوسن في مساحة الفن الشعبي، لكنّه لا يعتبر نفسه مغنياً شعبيّاً ينتمي إلى التقاليد الفولكلوريّة الإنكليزيّة للغناء، بل يرى تجربته تنتمي أكثر إلى أجواء أغنيات طقوس مجتمعيّة محليّة الطابع وموسيقى تجريبيّة خارج نطاق صناعة الغناء التجاري. وهو يلوم في تلك (التهمة) الملقاة على عاتقه ألبومه The Glass Trunk (أصدره عام 2013) تحديداً، فهو الذي كان وراء نقله من عزلة صندوق الموسيقى المحلّي في أقصى شمال إنكلترا إلى رحابة مشهد الغناء البريطاني العام بل أيضاً عبر العالم. وبالفعل، فإن ذلك الألبوم يمزج الغناء الشعبي بترديدات طقوسيّة أفريقيّة وملامح موسيقى روك عصريّة مع لعب بإمكانات برمجيّات الموسيقى الإلكترونيّة الحديثة ليصبح أقرب إلى موسيقى تجريبيّة صعبة.
إلى جانب أبحاثه التاريخيّة، فإن دوسن يردّ موسيقاه إلى تأثيرات صوفيّة، ويُدين بالعرفان تحديداً إلى عازف الغيتار الكيني هنري ماكوبي وموسيقيّ الفن الشعبي البريطاني مايك ووترسن. لكن أهم ما شكل تجربته وإحساسه بالعالم ربما كان ذلك المرض الجيني النادر الذي أصاب عينيه، فجعله يرى الوجوه والأشياء والأماكن كأشكال هلاميّة اقرب إلى الهلوسات منها إلى الواقع، وهو ما يقرأه النقاد في موسيقاه وكلمات أغانيه العجائبية، وجعلت بعضهم يقول إما أننا أمام عبقري مذهل أو مجنون فقد عقله تماماً.
دوسن الذي أطلق منذ 2007 وإلى اليوم، ثمانية ألبومات ناجحة تجاريّاً – لا سيما الأخيرة منها - استهوته صغيراً الموسيقى الشعبيّة الأميركيّة التي اكتسحت مزاج الشّباب البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين، فانتهى للعمل في متاجر الإسطوانات الموسيقيّة في نيوكاسل لعشر سنوات قبل أن يقرر احتراف الغناء والموسيقى. كان من أوّل ما اقتناه في تلك المغامرة غيتار عادي رخيص ذو أوتار بلاستيكيّة ما لبث أن أصبح رفيقه الدائم في عروض الأداء التي يقدّمها في بريطانيا وحول العالم. إذ كان ذلك الغيتار قد كسر، فلما أعادوه إليه بعد تصليحه وجد أنّه صار يصدر أصواتاً غريبة ناسبت مزاجه المختلف فتعلق به. بدأ دوسن بكتابة أغنيات عن الحب كما جلّ المغنين، لكنّه اعترف لاحقاً بأن تلك المرحلة من حياته كانت مأساة تامة، إذ أنه «كان يكتب ويلحن ويعزف عن شيء لم يكن يعرف عنه الكثير»، بينما سمحت له المصادر التاريخيّة بالتعمّق في تفاصيل الأحداث والألحان والأغنيات القديمة، فيطّلع عليها عميقاً بطريقته التفكيكيّة المختلفة في رؤية الأشياء ويستلهم منها مناخات مشوّقة.
يعيد دوسن اختراع موسيقاه مع كل أسطوانة جديدة يصدرها، فلا تشبه إحداها الأخرى إلا ربما في تعقد موسيقاها وتشابكها حول كلماتها. لكنه دائماً تعقيد يستحق التركيز والجهد لأنه ثري وممتع ومجزٍ. آخر أعماله Peasant – 2017 يضم 11 أغنية ذات جذور تاريخيّة تنتمي إلى فولكلور إحدى الممالك الإنكليزيّة القديمة ما قبل العصور الوسطى، لكنها تروي ثيمات تكاد تكون معاصرة: مجتمع في صراع مع ذاته، عنف وآمال ضائعة وندم وعلاقات ثمينة وأخرى مكسورة. أغنيات هذه الإسطوانة نتاج غرق في عوالم عتيقة مدهشة يعشقها دوسن، إذ قضى أياماً كثيرة في مكتبة جمعية الأدب والفلسفة في نيوكاسل أو على الإنترنت بحثاً عن تفاصيل صغيرة هنا وهناك لإعادة خلق كون قديم متكامل بألحان وكلمات. دوسن مهووس تفاصيل. عندما كان صغيراً، كان يعيد مشاهدة أفلام ومسلسلات الأطفال عدة مرّات ليكتشف فيها أشياء جديدة كل مرّة. لكنّه هوس واع وذكي، إذ يحوّل أغنياته إلى ما يشبه لوحات فنيّة مطرزة لكنّه يبقى مدركاً تماماً لخطورة التركيز على التفاصيل الدقيقة في العلاقات الإنسانيّة «إذ حتماً سينتهي المرء حينها من دون أصدقاء».
عازفة الكمان أنغارد ديفز شاركته أسطوانته الأخيرة، وقبلها كان شقيقها رودري قد عزف مع دوسن بآلة «الهارب» في أسطوانتين سابقتين. «موسيقاها كما الندى أو الضباب في الغابة» يقول دوسن عن أنغارد، «إذ تجدها هناك بخفة روح ولطف على كل مقطع من الأغنيات». بالتأكيد، هناك مشاريع مستقبليّة له مع رودري الذي يسميه «شقيقي في الموسيقى». فعندما لا يكون هذا الشاب السمين قصير القامة ذو الوجه الإنكليزي الصافي مضئياً كما كوكب، عندما يؤدي بعضاً من أغنياته أمام الجمهور، فإنك تجده حتماً يقضي ساعاته بين متاحف المدينة ومكتباتها العامة في رحلة إلى عوالم مجهولة بحثاً عن كلمات أسطوانة قادمة.

* ريتشارد دوسن: 8 كانون الأول ــ س:23:00 ــــ KED