تونس | في غرفته في المستشفى العسكري في تونس حيث كان يقيم من فترة إلى أخرى منذ إصابته بداء السرطان قبل أكثر من سنة، توفي الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد (1955 ـ 2016) يوم الثلاثاء الماضي بعدما شغل الساحة الشعرية والثقافية وحتى السياسية طوال عقود، ولما يزل بعد رحيله. نصوصه الأولى التي كان ينشرها في صحف المعارضة في عهد بورقيبة، تسبّبت له في مضايقات لم يكن أقلّها حجز باكورته الشعرية «نشيد الأيّام الستّة» (1984) التي اعتبرتها السلطة تطاولاً على بورقيبة. جرأته وكتاباته المتمسّكة بمدنية الدولة وبقيم الحداثة وتغنّيه بالمرأة بقصيدته التي تكاد تكون نشيداً رسمياً لنساء تونس (نساء بلادي، نساء ونِصْفُ) ومناصرته للنقابيين في محنهم المتكررة، كلّفته عداوة النظام وجزء من المحافظين في مقدّمتهم وجوه الإسلام السياسي، إلى حد صدور فتوى تكفير من القيادي الإخواني المصري يوسف القرضاوي. ولئن كان مجيء بن علي إلى السلطة مقترناً بالإفراج عن الديوان المحجوز ورفع الحظر عن منشورات أولاد أحمد وتكريم قائد البلاد الجديد له وتعيينه مديراً لأوّل بيت شعر (من 1993 حتى 1997) في تونس والعالم العربي، فإنّه كان تكريماً يسعى إلى شراء لسان الشاعر أو ضمان سكوته. لكن هذا ما لم يحدث فعليّاً. لقد ظلّ الشاعر ينبّه إلى «الحذاء العسكري» وإلى أنّ معدّل عمر المواطن التونسي هو «رئيس ونصف»، فكلّفه ذلك الإقصاء وإيقاف أجره الذي يتقاضاه باعتباره منشّطاً في وزارة الشباب لمدّة ناهزت الخمس سنوات. وحالما اندلعت شرارة الثورة في سيدي بوزيد مسقط رأس شاعرنا، حتى شرع منذ كانون الأول (ديسمبر) 2010 في كتابة يوميات تندّد بالقمع وتساند الثورة في وقت لم تكن فيه المؤشرات توحي بما سيحدث للنظام التونسي ومن ورائه الأنظمة الرسمية العربية من اضطراب وزعزعة. كان ينشر تلك اليوميات على الفايسبوك، ممهورةً بإمضاء «القيادة الشعرية للثورة التونسيّة»، ما أثار عليه نقمة النظام أولاً، ثمّ بعد الثورة نقمة بعض الكتّاب. كان أولاد أحمد ظاهرة تونسية فريدة بقصائده ومقالاته وعمقها الفلسفي والانغماس في المشاغل اليومية للناس، ممّا ألهم موسيقيين ونحّاتين ورسّامين وخطّاطين، تشهد أعمالهم بقدرته على أن يجعل من الشعر مصهراً وبوتقة للفنون وملتقى للإبداع عامّة. حتى الساعات الأخيرة من حياته، انغمس في تأسيس جمعية «تونس- الشاعرة»، وطيلة أسابيع ناقشنا القانون الأساسيّ للجمعيّة وأصرّ على إدراج فقرة في أهداف الجمعية هي: «التأكيد على ماهية الشعر باعتباره شكلاً من أشكال الإقامة في العالم، يحيل على المختلف والمتعدّد والمنفتح والحرّ، وعلى دور الشعر كحاجة اجتماعية وكحاضنة للثورة». وأصرّ في ليلة وفاته –وكانت ليلة ذكرى ميلاده الـ 61- أن يكون الاحتفال بتسجيل الجمعية بشكل رسمي، فدعا محامياً، وكاتب عدل لتوقيع محضر جلسة التأسيس. وبما أنّ التوقيع تمّ بعد الدوام الرسمي، فإنّ تسجيل الجمعية في دوائر الحكومة تمّ صباح الثلاثاء أي قبل وفاته بساعات قليلة.
ليس المجال متاحاً للتوغّل في الإرث الكتابيّ الهائل والمتنوّع لأولاد أحمد، ولا في مواقفه التي ما زالت تثير جدلاً يخفت حيناً، ويحتدّ أحياناً. يكفي أنّه فرض أن تقدّر الدولة والصحافة والمثقفون وحتّى عامّة الناس وظيفة الشاعر في المجتمع وريادته للفكر وللعمل السياسي في آن، وأسقط القاعدة التي تحدّث عنها أديب تونس وقصّاصها الأوّل علي الدوعاجي (1909 ــ 1949) وهي أنّ المبدع «عاش يتمنّى في عنبة (أي حبّة عنب) مات جابولو عنقود..». قيمة أولاد أحمد فرضت أن تكرّمه الدولة تكريماً رسمياً، وهو بعد على قيد الحياة في ديسمبر الماضي، وفرضت أن تقام له ندوة تكريمية في معرض تونس للكتاب أياماً قليلة بعد وفاته، وفرضت أن يكون شعره ملحّناً ومغنّى في تونس كما في لبنان وفلسطين، ومترجماً إلى لغات مختلفة. فرضت أن يتسابق الساسة من شتّى الانتماءات إلى الإشادة به وتكريمه، والجنازة الرسمية التي تمّت يوم الأربعاء الماضي تكفّل ببرنامجها ووقائعها «الاتحاد العام التونسي للشغل»، وشهدت حضوراً يساريّاً ملحوظاً. لم يكن غريباً أن يكون أوّل من أبّنه قائد المعارضة اليسارية حمّه الهمّامي، فيما أبّنته الحكومة في بيان رسميّ وتنقّل رئيس الدولة شخصياً إلى بيته في سابقة في تونس. حركة «النهضة» الإسلامية الشريك في الحكم والغريم التاريخي للشاعر منذ بداياته، أبّنته أيضاً في بلاغ رسمي فيما احتدّت حملة أنصارها عليه مصرّة على تكفيره والتشهير بـ «مواقفه» من الدين بل التشكيك في جواز الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين!
لا يمكن تلخيص تجربة أولاد أحمد، فقد امتدّت على ما يقارب 40 عاماً وشهدت تطوّرات مختلفة كرّسته شاعر تونس الأوّل وأكسبته تقديراً واسعاً عربياً. تجربة زاوج فيها بين العمودي وقصيدة النثر وشعر التفعيلة، واستفاد فيها من الميراثين العربي والإنساني. وللأسف، فإنّه لم يحظ بما يستحقّه من دراسات نقديّة جادّة. إلا أنّ ناقداً بارزاً في تونس هو الشاعر فتحي نصري اهتمّ بدراسة شعر أولاد أحمد باحثاً عن مفاتيح جديدة لشعر جديد كما يقول... جديد في رؤيته للشعر والوجود. يركّز نصري على الحوارية في نص أولاد أحمد وما تفيض به نصوصه من بساطة ظاهريّة من نوع السهل الممتنع، محاولاً تفكيك عناصر هذه السهولة غير المتيسرة لغيره والتي تسمح بذاك الفيض من الطرافة والسخرية المريرة من كلّ سلطة، سياسية كانت أو دينية أو أكاديمية، بل حتّى سلطة الذات على موضوعها. أما الكاتب والفيلسوف كمال الزغباني، فقد اهتمّ بحوارية الشاعر مع الفيلسوف/ الشاعر فريديريك نيتشه ليخلص إلى أنّ أولاد أحمد نيتشويّ في طرحه للمسائل الكبرى في انسجام مع العصر وقضاياه. سيبقى أولاد احمد علامة مميزة في الشعر التونسي تماماً كما بقي أبو القاسم الشابّي، وسيبقى مزعجاً لكلّ سلطة تسعى إلى احتكار الوطن، أو اللغة، أو الدين. كلّ سلطة من شأنها احتكار التأويل وتأجيل تحقيق الإنسان لإنسانيته، ونختم بهذا المقطع من القصيدة التي ردّ بها على فتاوى الداعين إلى قتله –مادّياً عندما كان حيّا، ومعنوياً بعد رحيله- وهي قصيدة "أدعية":
إلهي:
أَعنّي عليهمْ
لقد عقروا ناقتي
وأباحوا دمي في بيوتٍ أذِنْتَ بأن لا يُراقُ دمٌ فوق سُجَّادِها!

***

إلهي:
أعوذُ بك الآن من شرِّ أهلي
يبيعون خمْرًا رديئاً
ويُؤذونَ ليلَ السَّكَارى البريءْ!


***

إلهي:
لقد تمَّ بيعُ التذاكِرِ للآخرهْ
ولم أجد المال، والوقتَ، والعُذرَ
كي أقتني تذكرهْ
فمزق تذاكرهمْ يا إلهي
ليسعدَ قلبي
ألم تعد الناس بالمغفرهْ؟