يصل وديع سعادة (1948 ـــ مواليد شبطين شمال لبنان) عامه السبعين بقلقه الدائم وتوجسه من العالم وما فيه. ينظر الشاعر إلى هذا العمر باعتباره «سنوات أكثر مما ينبغي، وحياة أقل مما ينبغي». منذ عامين، توقف صاحب «غبار» عن الكتابة، ولم يعد إليها، لأن شعوراً مرعباً تسرب إلى أرجائه، اسمه «اللاجدوى». يحمل شعر وديع سعادة طاقة شعورية مذهلة، حيث الإنسان الأعزل يواجه أهوال العالم، أهواله الفردية والجماعية.
شعر صاحب «المياه المياه» ينقل هذه العذابات، ليس من أجل التشكي على القارئ، أو من أجل أن يصير بطلاً تراجيدياً، بل رغبة منه في التخلص منها، وفي تخفيف ذلك الألم الذي يرتبط بشكل أو بآخر بما كان يسميه نيتشه «الوعي الشقي». شقاء الشاعر نابع من وعيه بالعالم وإدراكه لحقيقته، إذ تحس أنه في تجاربه المتعاقبة يرى أكثر مما يراه غيره، ويقترب من حرارة العالم أكثر من الآخرين. لذلك، تصله نيرانه بالشكل الذي نلمسه في نصوصه الشعرية. يحس قارئ وديع سعادة أن الشاعر سيجنّ أو سيموت إن لم يكتب، وبالتالي فالكتابة لديه هي تأجيل للجنون أو للانتحار. في الأسطر الأولى من عمله الشعري «ليس للمساء إخوة»، نقرأ هذه الجملة: «في يدي انكسرت زجاجة العالم». إنها جملة مفتاح ليس لقراءة شعر وديع سعادة فحسب، بل لاحتضانه والاشتباك معه. لم ينصف النقاد شعر وديع سعادة، ربما لأنهم يبحثون عن التناص والبلاغات المتداولة والمستويات الإيقاعية والدلالية، وعما يخدم المقاربات الإحصائية والأسلوبية وما إلى ذلك، وهذه أشياء غير موجودة في شعره، أو على الأقل لن يجدها الناقد على الشاكلة التي ستخدم منهجه النقدي. شعر وديع سعادة يتدفق مثل نهر. كيف سيصف الناقد نهراً؟ ثم هل سيصفه أفضل من الشاعر؟ شاعر زاهد يلقي قصيدة عبر الانترنت ثم يعود لحياته. قصيدة قد تجد قراء أو مشاهدين قلائل جداً، وهذا لا يعنيه في شي، فهو يشبه من يسير في طريق طويلة يرمي البذور خلفه ولا يلتفت ليعرف إن كانت ستنمو وتتكاثر أم لا. حياته هي منبع الكتابة ومصبها: طفولته القاسية، هجرته أو هجراته، من لبنان إلى فرنسا واليونان وغيرها وصولاً إلى استراليا، رؤيته للعالم، الرؤية القلقة والمتوترة. اخترنا في هذا اللقاء أن نعود مع وديع سعادة إلى اللحظات الأولى للكتابة، إلى التصادم الأول مع العالم، لنتعقب معه مسار حياته، ونقف عند المشرق والمعتم، المبهج والمؤلم، عند الأرباح والخسارات في هذه الحياة.




■ هذه السنة تبلغ عامك السبعين، ماذا يشكل للشاعر سبعون عاماً من الوجود على هذا الكوكب؟
أظنها سنوات أكثر مما ينبغي، وحياةً أقل مما ينبغي. وقد أكون أجبت على هذا السؤال قبل عشرين عاماً، حين كنت في الخمسين من عمري، في أحد نصوصي: «... تبدأ الحياة في اليوم الأخير. الأيام كثيرة، لكن الحياة قليلة. تتأجل من يوم إلى يوم. وحين لا يبقى غير يوم تتدفق كلها إليه علّها تحيا فيه. وهكذا تبدأ الحياة، فقط حين انتهائها. ولذلك، لن تعاش الحياة أبداً (...) تلك الأيام، التي ذهبت الآن، لم تكن غير تمرين على دخول الحياة. الحياة ليست سوى تمرين دخول إليها. غير أنها تنتهي هناك، ولا ندخل. لا نعيش إلا التمرّن على العيش». هذا الذي كتبته في الخمسين من عمري أظنه يصلح في عمر السبعين أيضاً.

■ هل هناك إحساس بالندم أو الحسرة على شيء ما ضاع في الماضي؟ يعني لو عاد بك الزمن إلى الخلف، هل كنت ستختار وجهة أخرى غير التي سرت فيها؟
لا أظن أننا نحن الذين نقرر كل مسارنا، بل القدْر الأكبر من هذا المسار تقرره الظروف. صحيح أنني تمرّدت على بعض الظروف وحاولت التمرد على بعضها الآخر، ولكن في النهاية لم أتمكن من أن أكون غير ما كنت، ولذلك ليس علينا أن نشعر بالندم على ما لا يمكننا فعله. فقط كنت أتمنى أن أكون أقل حساسية تجاه ما يحدث في العالم من آلام وعذابات بشرية وقتل وما إلى ذلك، لأن هذه الحساسية آلمتني كثيراً وليس في إمكاني تغيير شيء، بل كل ما في الأمر أني كنت أتألم.

■ هل يمكن أن نقول إن وديع سعادة شاعر نوستالجيا؟ هل يستبد بك الحنين بين فترة وأخرى؟ وإلى ماذا تحن؟
لست شاعر نوستالجيا بما تعنيه الكلمة. ربما الأصح القول إني شاعر الغياب: غياب الطفولة وبراءتها ولامبالاتها تجاه ما يحدث في هذا العالم، وغياب الطمأنينة والسعادة، وغياب الإنسانية بالمفهوم العميق للكلمة، وما إلى ذلك. وحنيني إنما هو لعودة هذا الغياب، الذي لن يعود.

■ نظرتك للشعر، هل تغيرت مع تغير الزمان؟
كان الشعر بالنسبة إليّ هو الوهم الجميل، ولا يزال. وهْم أن تخلق عالماً آخر جميلاً، غير هذا العالم. كنت ولا أزال لا أصدّق هذا الوهم، لكني أريد أن أبقى متشبثاً به، لأن العالم من دون هذا الوهم لا يُحتمل.

■ ماذا عن المكان أيضاً؟ هل مسألة تأثير المكان على الكائن وعلى كتاباته مسألة حتمية لا مفر منها؟
تأثير المكان حتميّ بالتأكيد، وكذلك تأثير كل التجارب التي نمر بها. وهكذا فالمكان ليس مساحة جغرافية فحسب، بل هو مساحة داخلية في الذات أيضاً.

■ دعني أقف معك على الأقل عند ثلاثة أمكنة: لبنان، اليونان وأستراليا. تبدو اليونان هنا ربما قنطرة عبور تصل الأصل بالملاذ. الآن بعد هذه السنوات من التطواف والهجرة، ماذا منحك كل بلد من البلدان الثلاثة؟
يصعب تعداد ما تمنحك أي بلاد، فذلك يتطلب نبشاً عميقاً لما هو غائر في الأعماق ويكاد لا يرى. لكن، في المحصلة، لبنان واليونان وأستراليا وفرنسا وبريطانيا والبلدان الأخرى التي مررت بها أو سكنت فيها منحتني ذاتي التي هي أنا اليوم.

■ مرحلة تسكعك في أوروبا. ذهبت من بلد إلى بلد بالأوتوستوب، نمت في العراء، عانيت من فقر وحرمان. مثل هذه التجارب تؤثر في الشعر أم في الشاعر؟
تؤثر في الشاعر وفي الشعر معاً. فحين تؤثر في الشاعر يعني أنها حتماً تؤثر في الشعر، فكلاهما مرتبط بالآخر ارتباطاً وثيقاً. هذا أمر بديهي.

■ مرةً أعلنت أنك ترغب بعد كل هذا التطواف في العودة إلى لبنان والعيش بقية العمر فيه. ما الذي يمنعك؟
ما يمنعني من العودة والعيش في لبنان هو لبنان ذاته. فلبنان ليس وطناً بالمعنى الحقيقي لكلمة وطن، مثله في ذلك مثل كل الدول العربية بلا استثناء. فالوطن ليس فقط هو المكان الذي ولدت فيه وتعيش فيه وتحمل هويته، بل هو المكان الذي تعيش فيه بكرامة وبكامل الحقوق والاحترام والشفافية والنظام والقانون وما إلى ذلك، وهذا ليس متوفراً لا في لبنان ولا في أي دولة عربية. حين أعود في زيارة إلى لبنان، أعود إلى لبنان الذي في ذاكرتي، لكني لا أجد لبنان الوطن.

■ ما الفرق بين لبنان الطفولة والمراهقة ولبنان اليوم؟ هل تغير البلد أم تغيرت نظرة الشاعر إليه؟
حين كنت طفلاً ومراهقاً، لم أكن أعرف معنى أن يكون الوطن وطناً حقيقياً، لكنني عشته كما هو. اليوم، لبنان طفولتي ومراهقتي لم يعد موجوداً. هو تغير بالتأكيد، وبالتأكيد أيضاً تغيرت نظرتي إليه.

■ الأم. أمّ الشاعر، هل يحدثنا وديع عن أمه التي «وضعت آخر نقطة ماء في دلوها على الحبقة ونامت قربها»؟
أعتقد أني كنت الأحب إلى أمي من بين أخوتي وأخواتي، ربما لأنني الأصغر بينهم. أمي تيتّمت باكراً جداً وتزوجت باكراً جداً واشتغلت في الحقول أشغال الرجال وتعبت في تربيتنا. سأكتفي بسرد قصة صغيرة عنها لتعرف كم كان مقدار حبها لي: حين هاجرتُ إلى أستراليا، كانت تسكن عند أخ لي، وأراد أخي أن ينتقل من منزله إلى منزل آخر، فركعت أمي على قدميه ورجتْه قائلة: أرجوك يا ابني لا تنتقل من هذا المنزل، غداً يعود وديع ويضيّعني.

■ ماذا عن أول حب؟
ليست لديّ قصة عن أول حب تستدعي السرد.

■ ماذا عن الزواج والأبناء والحياة الأسرية؟ هل كانت تؤخر عربة الكتابة كما يرى كثيرون، أم أن وديع سعادة كان موفقاً في المزج بين حياة اجتماعية مشتركة وحياة أدبية فردية وخاصة جداً؟
ليس للكتابة شرط أن تكون منفرداً وغير منخرط في حياة اجتماعية أو أسرية. أنا أرى أن الانخراط في هذه وتلك يكسب الكاتب تجربة حياتية إضافية ورؤية أعمق للوجود. حياتي الأسرية وأطفالي أكسبوني عمقاً إضافياً في الشعر وفي المفاهيم الحياتية من خلال معاينتي اليومية لهم، التي هي معاينة يومية للحياة بوجه عام.

■ بعد خروجك من فرنسا ذهبت إلى أثينا كمحرر لروايات «عبير». هل كان الأمر يتلاءم مع ميولك الثقافية حقاً أم كان فقط مهنة ومصدراً للعيش؟
كان فقط مصدراً للعيش.

■ لنعدْ إلى الشعر. أنا أبحث عن الخيط الأول الذي أمسكه وديع سعادة وقاده إلى الشعر. ما الذي جعل منك شاعراً؟ الحب الأول؟ الألم الأول؟ الدهشة الأولى؟ الفقدان الأول؟ ما الشيء الأول الذي سحبك إلى منزل الكتابة؟
- لا أعرف ما هو الشيء الأول الذي قادني إلى الشعر. لكن بالتأكيد، كل ذلك الذي ذكرتَه كان مصدراً لشعري، إضافة إلى تجارب وأمور كثيرة غائصة في العمق إلى غور لا يمكن رؤيته والحديث عنه.

■ من أين تأتي قصيدة وديع سعادة؟ أبحث عن منابع الكتابة.
تأتي من منبع واحد: الإنسان. الإنسان بآلامه وأشواقه ومعاناته وإحباطاته ورجائه وكل ما ظهر أو انستر فيه.

■ كتب لك سركون بولص في ربيع 1972 رسالة من سان فرانسيسكو يقول فيها: «اخرجْ من هذه الطبقة الكثيفة من الجلد التي بنيت حولك دون أن تعرف. اخرجْ. لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو الله أو بوذا أو الشيطان. ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن «معرفة النفس» والبحث عن الله وباقي الخرق الثقافية الأخرى. هل فكرت لحظة بأن من المضحك أن «نكون» شيئاً؟ إننا لا نكون شيئاً أو أحداً. لأننا هذا الشيء وهذا الأحد. ولأننا كل شيء وكل أحد، من قبل. أعتقد أنك ستفهمني يا وديع لأنني أعرف أن لك عقلية نظيفة وأن دماغك لم «يُغسل» بعد بالرايات الثقافية الشائعة هناك الآن». ما مناسبة هذا الكلام؟ ما سياقه؟
أعتقد أن سركون بولص هاجر كي ينعتق من الواقع العربي، ثقافةً ومفاهيم وتقاليد وما إلى ذلك. ليس فقط من الواقع العربي، إنما من الموروث الثقافي عموماً وأينما كان. كنا صديقين في العمق وكنت مثله أصبو إلى هذا الانعتاق، وهذا كان، باختصار، السياق العام لما كتبه لي في هذه الرسالة.

■ «وإنْ أردتَ رفيقاً، فأيّ رفيق أعزّ من وحدتك؟». هذا ما تقوله في كتابك «قلْ للعابر أن يعود نَسيَ هنا ظلّه». وتقول في «بسبب غيمة على الأرجح»: «هؤلاء الذين اعتقدتُ أنهم يحبونني لم يفعلوا شيئاً من أجلي». أسألك هنا عن صداقات الشاعر.
لديّ صداقات عديدة، لكن، في الوقت نفسه، أعتقد أن الإنسان يبقى في العمق وحيداً ولو بين جمهور.

■ ما سبب هذا القلق الذي يغلّف قصائدك ويبطّنها؟
وهل ما يجري على هذه الأرض يجلب غير القلق؟ هل الإنسان ذاته سوى كتلة من القلق؟

■ يحس من يتابعك عبر الفايسبوك أن ثمة روحاً عدمية تحلّق في هذا الفضاء الأزرق. هناك يأس وإحباط في الكثير من تدويناتك. إلامَ مردّ ذلك؟
نعم أنا محبط ويائس من إمكان تغيير هذا العالم.

■ هل قدر الشاعر هو أن يواجه العالم باستمرار بدلاً من المصالحة والانخراط فيه؟
لا يمكن الشاعر أن يتصالح مع عالم يسوده القتل والبغض والظلم والعذاب والأنانية والعنصرية وما إلى ذلك. نعم، قدره فقط هو المواجهة.

■ «لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت». كيف تنظر إلى مسألة الانتحار؟
الانتحار هو الإدانة الكبرى للحياة الظالمة، القاسية، الخاوية، الأليمة... وللناس الذين سبّبوا هذا الظلم والقسوة والخواء والألم...

■ قبل سنتين أعلنت أنك منقطع عن الكتابة. ما الذي يجعل الشاعر يفكر في التوقف عن الكتابة؟
اللاجدوى.

أعتقد أن سركون بولص
هاجر كي ينعتق من الواقع العربي، ثقافةً ومفاهيم وتقاليد


■ ماذا بعد مرور هاتين السنتين؟ هل كتبت؟ وهل تكتب الآن؟
لا.
■ كنت تسجل فيديوهات قصيرة وأنت تقرأ نصوصك وتنشرها على يوتيوب، ثم توقفت عن ذلك. ما السبب؟
قراءة بعض قصائدي على يوتيوب ليس أكثر من تسلية وتمرير للوقت. لا أجد الأمر مهماً إلى درجة «المواظبة» عليه، وليس من سبب للتوقف ولا من سبب للاستمرار. قد أعود وأسجل قصائد أخرى وقد لا أسجل، ليس الأمر مهماً.

■ كانت أعمالك الشعرية قد تعرضت للمنع في الكويت قبل سنوات قليلة. كيف تنظر إلى مسألة حظر تداول الشعر؟ هل تخاف مؤسسة الدولة من تأثير الشاعر على رعاياها؟
منع تداول الشعر هو عملٌ سخيف ومتخلف ولا يستدعي سوى القهقهة، إذ أنه، أولاً، دعاية مجانية للشعر الممنوع، ثم بوجود التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل، فإن هذا الشعر يصل إلى أبعد ما تتصوره مؤسسات الدولة المانعة. لا شك في أن الدولة التي تمنع تداول الشعر تخاف من الحرية لأن الحرية تقوّض مؤسساتها القائمة على القمع. لكن لا أعتقد أن الشعر لديه قوة التقويض هذه. في أي حال، حين تُمنع أعمالي الشعرية كل ما أفعله أني أضحك عالياً.

■ حضورك في الملتقيات والمعارض والتظاهرات الثقافية في العالم العربي يبدو قليلاً قياساً إلى مكانتك الشعرية. هل هذا عائد إلى البعد الجغرافي؟ أم إلى زهد وتحفظ من الشاعر؟ أم أن ثمة أسباباً أخرى؟
لا أسعى إلى تظاهرات ثقافية ومهرجانات وجوائز. أكتفي بكتابة الشعر وأنا في الظل. هكذا في الظل أراقب نفسي بعين مجردة.

■ تجربتك مع غسان علم الدين ومارسيل خليفة وعبير نعمة نقلت قصيدة النثر إلى الغناء، أليس ذلك مجازفة؟
نقل قصيدة النثر إلى الغناء هو مجازفة للفنان، وفي الوقت نفسه هو تميّز لهذا الفنان لتجاوزه نمط تلحين القصائد الكلاسيكية. أما بالنسبة إلى الشاعر، فأنا أرى أن تلحين قصائده وغناءها يضيفان إليها أبعاداً جديدة.

■ هل أنت مطمئن على مستقبل قصيدة النثر في العالم العربي؟ وهل ترى أن ثمة إمكانية لظهور أشكال شعرية أخرى أكثر تطوراً في المستقبل؟
أنا أفضّل تسمية «النص الشعري الحديث» على تسمية «قصيدة النثر»، لأن هذا النص كسر الحواجز بين الأنماط الأدبية من شعر وقصة وفلسفة وسينوغرافيا وما إلى ذلك، وباتت هذه الأنماط محمولة في نص واحد. ثم هو نص حديث بمعنى الحداثة كشكل ومضمون وكمفهوم معاً.
أنا أرى حاضر هذا النص في العالم العربي، ولا يمكنني التكهن بمستقبله، لكن الشعر ليس عملاً جامداً بل هو متحرك ومفتوح دائماً على أشكال شعرية مغايرة.




قصائد غير منشورة

ريشٌ في الريح



لا تطأْ على ظلّ
إنه نظرة نائمة.

■ ■ ■

لا تأخذْ غصناً إلى موقد
إنه يد شجرة.

■ ■ ■

التقطِ الورقةَ وأعِدْها إلى الغصن
إنها عين الشجرة.

■ ■ ■

النجوم نظرات
انظرْ تَصِرْ نجمة.

■ ■ ■

كلُّ هذه الرياح
ليست سوى
آهات بشر.

■ ■ ■

للطريق التي لا تتوقّف عن المشي
بيت أيضاً
ولا تعرف كيف تفتح الباب.

■ ■ ■

فقط لو عرفوا
أن دمعة واحدة تكفي
لغسل كل الأرض.

■ ■ ■

... وللطريق رئة أيضاً
امشِ عليها خفيفاً
لئلا تختنق.

■ ■ ■

الذين يصرخون هناك
أفواههم هنا.

■ ■ ■

قال لا تقتربْ من الماء
وغرِقَ.

■ ■ ■

الغصون التي تهزُّها الريح لا تكون ترتجف
بل هي تلوّح
للغصون الأخرى.

■ ■ ■

مهما كان هذا الحمْل ثقيلاً
يمكنك أيضاً أن تكون
نسمة.

■ ■ ■

الأرض عمياء
اعطِها عيناً كي تراك.

■ ■ ■

الذين قلتُ لهم وداعاً هناك
سبقوني إلى هنا.

■ ■ ■

لا تطأْ على نملة
هل نسيتَ كم لعبتَ معها حين كنتَ طفلاً؟

■ ■ ■

لا تنظرْ إلى الفضاء كي ترى قمراً
ثمة قمرٌ آخر على الأرض:
عينكَ.

■ ■ ■

أخفضْ رأسك قليلاً
إنْ أردتَ أن ترى الأرض.

■ ■ ■

للدم لسان
كلُّ نقطة منه وهي تسقط تقول:
البشرية كلّها سقطت.

■ ■ ■

حَمَلَ حياته مثل لعبة معطَّلة
أراد أن يعيدها إلى الحانوتي
ووقفَ العمرَ كله
أمام حانوت مقفل.

■ ■ ■

تكلَّمتُ كثيراً
لكنَّ الصمت كان كنزي الوحيد.

■ ■ ■

للأحلام قنّاصون
لا تحلمْ
تَنْجُ.

■ ■ ■

تبقى وحيداً
ولو بين جمهور.

■ ■ ■

أيها الناظرون إلى السماء
انظروا جيّداً تروها خاوية.

■ ■ ■

الذين بلا أقدام
حين تنظر إليهم بحبّ
يصيرون بأجنحة.

■ ■ ■

نقطة دم واحدة تُهدر من عصفور
تُظلِم كلَّ السماء.

■ ■ ■

كم كانت الأرض جميلة
لو انَّ كائناتها تقتات فقط من الهواء.

■ ■ ■

قال: بلى، ثمة ماءٌ بعد في قعر البئر
ومات عطشاناً.

■ ■ ■

كان حافياً
والطريق كلها مرسومة على لحم قدميه.

■ ■ ■

لا أخال الأرض محمولةً إلا بكثافة الآهات.

■ ■ ■

هل رأيتم سحلية في مكان ما؟
إنها شقيقتي وقد أضعتُها حين كنا نلعب في الغابة.

■ ■ ■

أقدامٌ أقدامٌ أقدام
وظِلٌّ على الرصيف
يحاول أن ينام .

■ ■ ■

ثلوج ثلوج ثلوج
أظنُّها دموعاً قد تجمّدت.

■ ■ ■

الطريقُ أيضاً
تسأل عن الطريق.

■ ■ ■

لا تحلمْ بمحطَّة
مهما ركبتَ قطارات
تبقى في مكانك.

■ ■ ■

ناديتُها كثيراً
ولم تأتِ
الحياة.

■ ■ ■

في البحر قشّة ؟
لا تتشبّثْ بها
لو خشبة
ستغرق.

■ ■ ■

من ترابه نبتت شجرة
تشبهه حين كان فتىً.

■ ■ ■

من ترابه نبتت زهرة
تشبه عينه المغمضة.

■ ■ ■

أرى عيوناً كثيرة
في الأنهار.

■ ■ ■

حين تنزل دمعةٌ في النهر
تأخذ عينها معها.

■ ■ ■

ارمِ السماءَ
وَضَعِ الأرضَ في قلبك.

■ ■ ■

الطير الذي حطَّ على رأسك ذات يوم
لم يكن يريد سماء بل رفيقاً.

■ ■ ■

كم هي صبورة
الطريق التي مشت وحدها كلَّ هذه الأيام!

■ ■ ■

يا أصدقائي البعيدين
العصافير التي تأتي إلى شجرة أمام بيتي وتنظر إليَّ 
في عيونها شيء من نظراتكم .

■ ■ ■

هناك هو هناك
ولكن أين هنا؟

■ ■ ■

أسمعُ أصواتاً
في العشب أيضاً.

■ ■ ■

تكلَّمَ كثيراً
لكنَّ الوحيد الذي رافقه طوال الطريق كان الصمت .

■ ■ ■

أريد أن ألعب
أمعقولٌ أن أجوب كلَّ هذه المدن وأبحث طوال العمر
ولا أجد لعبة ؟!

■ ■ ■

مللتُ من انتظاركَ
يا رفيقي القديم يا شبيهي يا وديع أين ذهبتَ ؟

■ ■ ■

حتى الصخر يصرخ
والنسيم ينجرح
من ريشة.

■ ■ ■

فقط لو الهواء يعيد إليَّ
الكلمةَ الأولى التي قلتُها
للريح.

■ ■ ■

مشى صامتاً
لئلا يُثقل عبورَه
الصوت.

■ ■ ■

لم يقل وداعاً
فقط
رفع قليلاً إصبعه.
(2014)