برانيه موزيتيتش*ترجمة: جولان حاجي

1


آنّا الحبيبة، لوبليانا كابوس. الفكرةُ
الأولى التي تتبادرُ إلى ذهنكِ هي أن تقطعي
رسغيك، أو تعلّقي مشنقتك، أو تقفزي
من أية بناية. لتتحمّليها عليكِ بالسُّكْرِ الدائم
أو التحشيش. لا الأصدقاء أصدقاء، ولا المعارف
معارف، ولا العشّاق عشاق، ولا الأمُّ أمّ،
ولا الأبُ أب، ولا الزوجةُ زوجة، ولا الأرضُ أرض،
يحوم كلُّهم في الفراغِ الذي لن ينتهي، وسط مُدمنين وأشباحٍ وهلوسات،
لا الماءُ ماء ولا الهواءُ هواء ولا النارُ نار.

آنّا الحبيبة، مدينتك هي نهايةُ العالم
دون أيِّ شكلٍ من الأمل، هذه المدينةُ هي الخمول،
إنها عذابٌ، وجعٌ في معدتك، حشدٌ
لجميع القوى السلبية التي تبذلُ كلَّ ما في طاقتها
لتجعل منكِ حمقاء كسيحة. لوبليانا،
الأفعى ذات الصوت العذب التي تلتفُّ حول جسدك،
في نعومةٍ ورهافة، فينفد الهواء منكِ ولا تستطيعين أن تتخلّصي
منها، دائماً تلاحقُكِ، تسعى وراءك،
ملوَّنةً ولا تشي بالخطر. اختفي، غُوصِي
في المستنقع، عُودِي إلى الوحل، إلى الأبد،
أنقذِينا.

2


الليالي طِوال ولا تأتي بالنوم. أستلقي في العتمة
منصتاً إلى كلِّ نأمة، وحين يتناهى وقعُ خطوات
أقلقُ متسائلاً فيما إذا ستعقبها خشخشةُ المفاتيح.
ثم تهدأ العتمة، فتتراصفُ الصور، ثم أصواتٌ جديدة مرة أخرى.
وهكذا الليل بطوله، تتوالى مشاهد قصيرة من أحلام
شهوانية، فأتلمّسُ جلدي وجسدي، وأنتظركَ.
عند انتصافِ الليل، حين تدنو الخطواتُ من دون رادع،
يتسارع خفقانُ قلبي، يتحرّكُ مقبضُ الباب. أرى
كيف تراوِغُ في سُكْركَ كأنك لا تعرفُ
إلى أين أتيتَ. تخلعُ ثيابك وتستلقي إلى جانبي. آنئذٍ
تسترخي الأعصاب، دفعةً واحدة، حين أضعُ رأسي على
صدرك، فينتهي القلقُ كلُّه. تهمهم: لماذا بحقِّ الأرض
لا تزالُ معي؟ أنت لا تنالُ شيئاً مني! أنا صامت.
تريدُ جواباً وأنت سكران تتوسّلُ. أتشبّثُ
بك ولا يمكنني النوم على هذا النحو. الليلُ
طويل. الرحلةُ بدأت. أنت على الحافة، تهجرني
في نومك، وأنا أزحفُ صوبك، ورائي
الكلبُ يتشبّثُ بي، فيبقى نصف السرير فارغاً
تماماً. هكذا هي رحلتُنا ولا أحدَ يفهمُ شيئاً.

3



لو أنسى كيف ضلّتْ غزالةٌ جريحة إلى
حقلِ ذُرَتِنا فنادى جدّي الصيادين ليأخذوها
بعيداً. كانت صغيرة جداً، ضعيفة.
لو أنسى الصبيان الذين كانت لهم أسرارُهم وأخفوها
عني. كلّما سألتُهم عنها،
قالوا: لا تزالُ صغيراً جداً. ظللْتُ على الدوام
صغيراً جداً، وما اكتشفتُ قطّ ما فعلوه.
لو أنسى الصبيَّ الذي وقعَ في حبّي في الروضة
وما انفكّ يقبّلني بينما المعلّمون
يبتسمون فحسب: لكنّه ليس بنتاً!
لو أنسى الرجفةَ الغامضة، الحمّى
التي اجتاحتْ جسدي عندما رفاقي في الصف، واحداً بعد الآخر،
جاؤوا إلى بيتي. علّمتُهم لأنّ
درجاتِهم متدنّية، وكانوا في الصف قد اتّفقوا على
أنني المناسب لمساعدتهم. تقاسمني الصبيانُ،
أما البناتُ فتقاسمْنَ بنتاً من الصف.
لو أنسى كيف شردتْ عيناي إلى طلوعِ الشعر في وجوههم،
كيف فضّلتُ، في النادي الرياضي، ادّعاءَ أنني مريض
ليُتاحَ لي الجلوسُ على المقعدِ والتفرُّج
عليهم يلاحقون الكرة.
لو أنسى كتاباتي الأولى المكتوبةَ من أجل هؤلاء الصبيان.
لو أنسى سَكْرتي المتهوّرة لأنني آنذاك وفقط
آنذاك تجرّأتُ على لمسِ حبّي الأول.
لو أنسى كلَّ شيء أتى لاحقاً.
لو أنسى صديقتي الأولى التي ما استسلمتْ قطّ
رغم محاولاتي المستمرة. لا أصدّقُ كم
كنتُ هائجاً آنذاك!
لو أنسى الرجل الذي ضلّلهُ شَعري الطويل
وجسدي النحيل فناداني على درَجِ المدرسة
وعندما التفتُّ فتحَ
معطفَهُ القديم الطراز وأراني
قضيبهُ الأحمرَ القبيح.
لو أنسى شعورَ القرف الذي انتابني،
والحنانَ الذي نظرتُ به إلى العينين الزرقاوين لرفيقي في الصف.
لو أنسى الوقتَ الذي أدرتُ فيه ظهري لعالمِ الرجال
واهتممتُ بزوجةٍ ساعدتني على هذا. حين، في إقامتنا الرائعة
على الساحل، بدا أنَّ الحياة
ليست إلا أمواجَ المحيط.
لو أنسى تصابيات زوجِ أمي التي هدّدتني دائماً
فتراجعتُ، لأنني خفتُ
أن لمساتهِ ترغبُ في أشياء أخرى.
لو أنسى أنّ لساني لا ينطقُ شيئاً، ولن ينطقَ
أشياء كثيرة، فأفضّل أن أختبئ وأصمتَ
وأنسى. آه، يا جو براينارد، خيرٌ لي أن أنسى،
أنسى كلَّ شيء، لأن كلّ شيء يظلّ يلامسُ النقاط العارية المؤلمة،
ولن يتوقف عن ملامستها حتى الموت. أن أنسى، أن أنسى.
في غرفتي ثمة أحياناً صمتٌ مرعب
وظلمةٌ أشدُّ إرعاباً.

* يقول برانيه موزيتيتش: «لم يكن لي عمل يوماً، وليس لدي ما يكفي من الخيال. ذكرياتي عادية، مثل قتل الأرانب والقطط وأوهام اليقظة. تمثلني هذه الثلاثية «ترهات»، ولنسمّها شعراً، تأثرت فيها بالشعر السردي الأميركي. كنت أدخل إلى مكتبات نيويورك وأقرأ ما أصادفه من دون أن أشتري شيئاً. قصائدي من دون عناوين لأن العنونة شكل من ممارسة سلطة لا أطيقها». برانيه موزيتيتش، الشاعر والكاتب السلوفيني، يقيم في العاصمة لوبليانا حيث يدير منذ سنة 1990 مجلة «المسدس» للأدب المثلي، ويشارك في تنظيم «مهرجان لوبليانا للسينما المثلية». تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، كما ترجم بدوره إلى اللغة السلوفينية كتاباً مثل جان جينيه وميشيل فوكو وآرتور رامبو. القصائد الثلاث هنا مترجمة من الكتاب الثالث في ديوانه «ترّهات». نرى في القصيدة الثالثة ما يشبه معارضة شعرية لكتاب «أتذكّر»، وهذا الكتاب الأخير بمثابة سيرة الرسام الأميركي جو براينارد، وتبدأ كل فقرة أو سطر فيها بكلمة «أتذكر».