رغم إغفال العنوان الفرعي «رواية بحثية» في الترجمة العربية لكتاب «شخصية دوستويفسكي» (صدر بلغته الروسية عام 1975) الذي ألفه بوريس بورسوف (الهيئة العامة السورية للكتاب)، إلا أن الحب وسعة الاطلاع والتعقيبات العارفة التي قدَّمها الدكتور نزار عيون السود في ترجمته، وضعتنا في صُلْب ما أراده الناقد الروسي من مُحاولة للقبض على شخصية إشكالية تتبادل العطاء مع ما أبدعته من شخصيات روائية، مستفيدة من كل تفاصيل حياتها وحيواتهم، على حدٍّ سواء، في سبيل التأكيد على النزعة الإنسانية، وتشابكاتها بين الحياة والأدب. في هذا الكتاب الضخم (916 صفحة)، نرى أنّ دوستويفسكي (1821 ــــ 1881) بالنسبة إلى بورسوف، هو بطل أدبي لا يقل عمّن صوَّرَهم في رواياته أهميةً، سيما أن تجزئة نفسه على نفوسهم، يكشف بقوة مدى عظمة وصعوبة طريق صعود النفس الإنسانية إلى ذاتها، مُبرِّراً بذلك دراسة هذه الشخصية العبقرية التي ليست مخطوطة بخط واحد، بل كانت، كما وصفها، عبارة عن «سبيكة خطوط عديدة»، تتشابك فيها حياة دوستويفسكي مع إبداعه مع التاريخ الروسي والعالمي، لتكون شخصيته هي نقطة الانطلاق نحو فهم معاناة البشرية جمعاء.

التراجع عن جنس السيرة الذاتية، وعرض أحداث حياة دوستويفسكي حسب ترتيبها الزمني، كان خياراً بحثياً مُضنياً، لكن لحاق بورسوف بكل ما خطَّته يدا صاحب «المساكين»، من روايات ورسائل ومقالات، وتتبُّع شخصيته التي تتوحد فيها جميع جوانب اهتماماته في وحدة عضوية لا تتجزأ، فيه من المتعة الكثير. وبهذا حقق الباحث نسقاً مُشابهاً لأسلوبية الأديب الروسي من حيث أنه لم يسر في طريق مستقيمة، بل كان يعود باستمرار، إلى المسائل القديمة، ويقررها من جديد، من دون أن يطمح أبداً إلى القرار النهائي.
يقول بورسوف: «إن موضوع هذا الكتاب هو شخصية دوستويفسكي لا سيرة حياته، أو مصيره، بل تحديداً، شخصيته، وبالدرجة الأولى شخصيته التجريبية، وليست شخصيته الظاهرة المتحولة في رواياته. فالمبدأ الزمني التقويمي لعرضها لا يطابق مثل هذا الطرح. وفي كل مرة أحتاج إلى دوستويفسكي كله».
وانطلاقاً من أن مؤلفات المبدع مفتاح لشخصيته، كما أن شخصيته تعد مفتاحاً لمؤلفاته، نلحظ الاهتمام الذي أولاه الباحث الروسي بأبطال دوستويفسكي، في محاولة منه للكشف عن السبب الكامن وراء قباحة صورتهم، رغم شبههم بمُبدعهم نفسه، كواحدة من أصعب قضايا دراسة صاحب «الجريمة والعقاب». إذ يرى أن ذلك يعود إلى أن أولئك الأبطال «لشدة إيمانهم، ولشدة عدم إيمانهم، إلى حد التطرف، يرتكبون أفعالاً وجرائم غريبة، تتعارض كلياً مع نياتهم السامية، مشوهين بذلك الطبيعة الإنسانية. ومنطقهم يقول: طالما أن الإنسان غير قادر على فعل الأفضل، فليفعل الأسوأ، إذ ينعدم عندهم الخوف لِلْمَسِّ بكرامة أي إنسان».
يتابع بوريس أنّه «كلما انغمس إنسان دوستويفسكي أكثر في قاع الأوحال والضلالات الروحية والرذائل المختلفة، ازدادت عنده الحاجة إلى الخلاص منه والاستضاءة بنور الإنسانية الحقيقية، ولو كان ذلك بعدما سمح لنفسه بتحقيق الإمكانات غير المسموح بها، مُعرِّضاً بذلك الطبيعة البشرية لاختبارات لا يرضى بها العقل والضمير، ومع ذلك فإنه يُفضِّل أن يعاقب نفسه بنفسه على آثامه وجرائمه. وكلما كان الحكم أشد كان أفضل بالنسبة إليه».
بعد ذلك النقد، نرى بورسوف يؤكد على الفرق بين الكاتب وأبطاله، فالأول في تصويره للوجود يبقى بصورة أساسية في المجال الوجودي، بينما أبطاله، في تأملاتهم حول الوجود، يعانون من ضغط وجودهم الكبير. ولدى مقارنته بهم، يتوصل دوستويفسكي نفسه إلى نتيجة مفادها: «كانوا يعتقدون أنهم صوروا حياة الغالبية، وبرأيي هم لم يصوروا سوى حياة الأقلية، حياة المُستثنين. فالعكس هو الصحيح، وحياتهم هي حياة المستثنين. أما حياتي فهي حياة القاعدة العامة. وبهذا ستقتنع الأجيال المُقبلة التي سوف تحكم بمنطق حيادي، والحقيقة ستكون إلى جانبي. أنا أثق بهذا، وجميع صرخات النقاد بأنني لا أصوّر حياة حقيقية، لن تُغير قناعتي».
يفنِّد الكِتاب تناقض الآراء حول أدب دوستويفسكي، وانقلاب بعضها مئة وثمانين درجة، من أمثال النقاد والأدباء: ستراخوف، بيلينسكي، تولستوي، غوركي، توماس مان، تشايكوفسكي، نيتشه، غوغول، بوشكين، وغيرهم. ولعل ذلك يعود إلى البنية النفسية الغريبة لصاحب «الإخوة كارامازوف»، التي كانت تحتوي بعض القابلية لمغريات عصره، إلى جانب الإدانة الأكثر قطعية لجميع عيوب زمنه ونقائصه، والتعاطف، بالطبع، مع أفكار عصره التقدمية إلى جانب الشك الدائم بها.
وبهذه السمات، يتمتع أبطاله الرئيسيون، الذين تتجدد فيهم ماهية فكره وحماسته، بصورة متكررة، لكنها ليست متطابقة معها تماماً، إذ إن جميع رواياته تشكل تبريراً ذاتياً، بحسب الناقد ستراخوف، وتثبت أنه يمكن أن تسكن في الإنسان، إلى جانب النبل والشهامة، مختلف أشكال الرذيلة. لكن دوستويفسكي كان يرد على مثل تلك الاتهامات بأنه «شعر بالسعادة في العثور على الشهامة والكرامة حتى في روح قاطع الطريق». فتركيزه لا ينصب على تمجيد البشر، مثل بوشكين، وإنما على العاهات الروحية التي أشبع بها الإنسان التاريخ انطلاقاً من ذاته أولاً. يوضح بورسوف: «مهما فكر دوستويفسكي في أي شيء، فهو يربط حتى فكرته الأكثر تجريداً بحياته الشخصية. ويتحقق من التاريخ العالمي كله بما عاشه شخصياً. إن هذا الإنسان الذي لم يؤمن حتى النهاية، بأي قناعة من قناعاته، بالرغم من هذا، كان يؤمن بنفسه وحدها. وهذا ولَّد عنده شعوراً لا يُقارن بمسؤوليته الشخصية عن كل ما يجري في العالم. بعد ظهور المسيح كمثل أعلى، غدا واضحاً أن التطور الأخير والأسمى للشخصية يجب أن يصل إلى درجة يقتنع بها الإنسان بأن الاستثمار الأسمى الذي يمكنه أن يجعل الإنسان من شخصيته، ومن كامل تطوره «أناته» هو أن يقضي على الأنا ويعطيها بكاملها للجميع ولكل واحد، بالتمام، وبغاية التفاني. وتلك هي السعادة العليا».
وعلى اعتبار أن الرسائل كشّافة للشخصية، فإن بورسوف يعتبر رسائل دوستويفسكي الطريقة الصحيحة لمعرفة شخصيته: «إذ لم يكن يحب كتابة الرسائل، ولهذا يكتبها عندما يجد نفسه في حالات الضرورة القصوى، كاشفاً بذلك نفسه فيها في الحالات الاستثنائية المتطرفة (…) إن رسائل دوستويفسكي من حيث مضمونها السيكولوجي وأسلوبها طريق مباشر إلى رواياته».
مفتاح آخر من مفاتيح الشخصية المبدعة وجده بورسوف عبر كتابات دوستويفسكي الصحافية، سواء في مجلتَي «فريميا»/ الوقت و«إيبوخا»/ العصر، أو في «يوميات كاتب». وفي ذلك يقول: «بصفته روائياً، كان يحتاج إلى خبرة الصحافي المتنوعة، فالصحافة هي مخبره الإبداعي الذي صاغ فيه طريقته الروائية الأدبية وأسلوبه، مجدداً إياهما باستمرار، وهي منصته لتعرية كامل تناقضات رؤيته للعالم، بحيث لا يمكنه الاختفاء خلف أبطاله».
«شخصية دوستويفسكي» ذات الطبيعة الخاصة تجسدت في ذاته وفي عمله، وفيها تجدد مُستمر جعله يقول وهو على مشارف الخمسين من عمره بأنه «حتى الآن لا أستطيع أن أتبين: هل أنا أسير نحو خاتمة حياتي أو أنني أبدأها الآن». هذه الطبيعة ـــ بحسب بورسوف ـــ كانت تخيفه وترعبه. كما كان يخاف عقله وجدليته القادرة على استخلاص أحكام مُتناقضة من فرضية واحدة بذاتها. وتأكيداً منه على وحدة وعدم تجزؤ طريقه الروحي، كان كأنه يُلح على الوحدة العضوية لـ«الأنا» الخاصة به، ساعياً بظمأ إلى الحرية، لكنه في سعيه إليها لا يبلغ سوى فقدان الرقابة على نفسه. إذاً، ينتج أن الحرية التي تطلع إليها ظامئاً، تستعبده أكثر، فيبقى من دون مخرج. هذه الازدواجية التي تكشف عن تراجيدية الوعي الإنسانية ومأساة إدراكه للعالم، تبدأ بخوف الإنسان أمام الحياة، ثم انشطار في شعوره مع حضور الواجب الأخلاقي تجاه البشرية، بحيث يختلط عليه الأمر بين المتناقضات، ويجد نفسه عاجزاً عن اتخاذ قرار حاسم بسبب العدد المتساوي من الإيجابيات والسلبيات.
«الدوستويفسكية» إذاً باعتبارها استكانة وتمرداً في الوقت نفسه، لم تكن تركيبة سهلة، بل وصل إليها مُبدِع «الأبله» بكثير من المعاناة، سبّبها وضعه الصحي كمريض صَرَع، ومواقفه الثورية في حلقة بتراشيفسكي التي أودته إلى المنفى السيبيري والأعمال الشاقة لعشر سنوات. لكنه مع ذلك، ظل يراها «حادثة طارئة»، وأيضاً وفاة محبيه حوله من أمثال أخيه وزوجته وابنته الأولى في شهرها الثاني، وعلى رأس ذلك عدم رغبته في التخلي عن رسالته التي خُلِق من أجلها، مهما قست عليه الظروف مادياً ومعنوياً، إذ يقول: «إني على قناعة راسخة أنه ما من أديب يكتب في مثل ظروفي، ولكن لو عرفت كم هو قاسٍ إفساد الفكرة السامية التي ولدت فيك، وألهبتك حماسة، لتابعت الطريق». فالروائي العظيم ـــ بحسب بورسوف ـــ يسدد دوماً ثمن كشوفاته الروائية وتحقيق شخصيته بمعاناة روحية ونفسية، يحصل منها على مسراته الكبرى، سيما إن كان يؤمن بأن «طريق الإنسان هو الإنسان نفسه».
وفق هذا السياق، كان يخشى دوستويفسكي أن يُمنع من الكتابة ويعتبر ذلك هلاكاً له، بينما كان يعتبر فترة نفيه مع الأعمال الشاقة مدرسة مديدة تعلّم فيها أن لا مكان للخمول الإنساني، مهما دعت الحاجة إلى الشوق له. ولا بد من جعله نقطة انطلاق لأعمق بحث في الطبيعة البشرية. وهذه هي إحدى مفارقات دوستويفسكي: من ميله إلى الخمول، كان يولّد الطاقة الأكبر للعمل، ومن حاجته إلى المال وكونه بات أكثر تبعية لسلطته بسبب الديون المتراكمة والوعود الكثيرة لدور النشر، طالب نفسه بالإلهام بإلحاح أكبر، لتحقيق ارتقاء موهبته إلى أعلى قممها. وعندها أنهى حساباته مع المال، وتحول إلى قاضي العصر الرهيب الذي يدين المساومة والتجارة والاستثمار، لتصبح مزيته الجوهرية بحسب ناقدنا «خوفه الدائم من المال واهتمامه الدائم به، مع احتقاره الأبدي له»، فالمسألة الواقعية التي انشغل بها صاحب «الإنسان الصرصار» مع أبطاله، هي مسألة الحق في الوجود ذاته، ومسألة ما إذا كان الإنسان سيبرر هذا الحق المعطى له وسيزكيه. وكلما أوقعه الأدب في المصيدة، يخرج منها بمساعدة الأدب نفسه، مكتسباً في كل مرة تجربة جديدة، كمفكر وكروائي. إذ لم يكن الأدب بالنسبة إلى دوستويفسكي نوع النشاط والعمل الوحيد الذي يمارسه، بل كان أيضاً الطريقة الوحيدة لتأكيد ذاته، كممثل للجنس البشري.
يصحبنا أيضاً بوريس بورسوف في بحثه الآسر، إلى واقعية دوستويفسكي المُحذِّرة والمنذرة في عالم يسميه «مملكة سوء النية». ويقارنه مع الكبار أمثال: غوركي وتولستوي وغوته وبلزاك وبوشكين وتومان مان وغيرهم لنكتشفه أكثر، ويُزيد معرفتنا عن علاقة صاحب «المقامر» بالله وبالخطيئة والشر. يغوص في عوالمه النفسية، هو الذي قال عنه نيتشه إنه عالم النفس الوحيد الذي تعلم منه بعض الأشياء، لينقلنا عبر رحلة سردية مشوّقة في عوالم شخصية دوستويفسكي منذ طفولته، مروراً بوصمة العار التي حازها بلقب «المهندس الأحمق» من القيصر نيقولاي بافلوفيتش بعدما اكتشف الأخير أنه رسم في المعهد العالي للهندسة المعمارية، الذي كان من أوائل متخرّجيه، قلعةً من دون أبواب، وليس انتهاءً بزواجه بآنا غريغوفنا وأثرها عليه، والانتقادات التي وجهت له بأنه «موهبة ستشوِّه سمعة الجميع»، أو أنه «ثروتنا القومية ولكن لنا حساباتنا معه»، أو أن «مؤلفاته تكشف كل دقيقة عن لجّة الجنون»، لنترك الكلمة النهائية لبورسيف الذي قال في خاتمة كتابه: «مع دوستويفسكي، لن نشعر أبداً بالملل من التجوال في جميع الزوايا، حيث كان يتجول الفكر الإنساني والنفس البشرية طيلة مئات السنين، بحثاً عن أجوبة طُرحت وسوف تُطرح إلى الأبد أمام جميع الأجيال، التي عاشت ذات يوم، والتي سوف تعيش في أي وقت على هذه الأرض».