من على الشرفة في الطابق الأول، تليها عريشة هائلة ثم محيط واسع من الأرض الصلبة، أقف وأبصر الأوراق الجافة تسقط بهدوء، تتأرجح في الهواء، تلامس الأرض بصمت كما لو أنها لم تسقط، فأقول: ليتك خلقتني ورقة يا الله.
أنثر ماء من القارورة التي في يدي، فيسقط الماء وقد تطاير بعضه في الهواء، وما تبقى منه يسقط على الأرض وقد أحدث وقعاً بسيطاً كقبلة عجلى، فأقول: ليتك خلقتني قطرة ماء يا الله.
في مرات كثيرة، كنت أفكر في ما سيحدث لو سقطت؟ كيف سيكون وقع السقوط؟ كورقة؟ كقطرة ماء؟ أم كفخار؟
في كل مرة، أتحسس جسدي وأتذكر أني قطعة فخار، ستجد طريقها يوماً للأرض، وتعود كقطعة طين صلبة تذيبها حرارة الحنين لأمها الأرض، لكن أي الطرق تلك؟! هل هي سقوط مدوٍّ على أرض صلبة أتكسر فيه لقطع صغيرة جارحة؟ أم يلقى بي على أرض ترابية مكتظة بالعشب فيكون سقوطي كما لو أنه عودٌ لحضن قديم، عودة دافئة لن أشعر فيها بالألم، بقدر ما يكون شعوري بالعودة بعد كل هذا النفي؟ أم سيلقى بي في النار؛ فيتعالى الاحتراق والدخان الأسود المتطاير كغيمة ثقيلة لن تمطر، فقط تعبر ببطء؟
في تلك المرة التي تمزقت فيها الستارة العالية، وبقيت نافذة الغرفة بلا حاجب يحجب هلع الليل إلى غرفتي، كانت شجرة الميم الشامخة ترقص مع ريح تلك الليلة، وظلها يلتصق بجدار غرفتي، متحدية ضوء البدر الذي كان يخترق المكان. كنت أرسم خيالات متعددة للسقوط، ماذا لو سقط البدر؟ هل سيتهشم كالزجاج؟ أم كقطعة حلوى اللبنية؟ لينة طرية، أم يتدحرج ككرة بيضاء؟
وأغصان الشجر تتراقص، وأفكاري معها، عاد السؤال يرن مرة أخرى: ماذا عن سقوطك؟ كيف سيكون؟ جربي، الأمر ليس بهذه الصعوبة.
جربي، جربي، تتكرر بشكل ملح، وأنا أحاول أن أفكر بأمر آخر، تركت مواجهة النافذة، وواجهت الجدار: هذا ما ستجدنيه في الأسفل إن سقطتِ، الجدار الصلب، الجدار الصلب.
أيقظتني أمي في الصباح وهي تسألني: ما قصة الجدار الصلب الذي ظللتِ تكررينه حين أردت إيقاظك؟
كنت أفكر في ما عليّ قوله لها، هل أخبرها بأني كنت أفكر بالقفز من على الشرفة؟
ماذا ستظن بي؟ هل ستغفر لي فضولي؟ أم أنها ستحاول ربطي بالسرير؟
كنت أخبرها أنه حلم ما وأسكت، لم أخبرها أنه حلم كبير جداً، كبير في فزعه وظلمته، حين أسقط من علو كل مرة، وفي كل سقطة كنت أتمنى أن تكون الأرض حضنها. يا رب اجعل تلك الأرض حضن أمي الدافئ الناعم الحنون، لكنها كانت تلك الأرض الصلبة ذاتها كل مرة، والصرخة الفزعة ذاتها، الحلم ذاته، لكنه ما زال يتمدد حتى اللحظة. توقفت أمي عن إيقاظي، وما زلت أواجه الجدار بعض الليالي، والآن بتّ أواجه السقف وأتخيل الأرض تدور ويكون السقف تلك الأرض الصلبة، وفي مرات كثيرة: كنت أمد يدي لأربطها بالسرير قبل أن أبصرها مهشمة كالفخار.
* كاتبة سعودية