في السبعينيات، عندما كان العراقيون يتنفسون هواءً حراً، ظهر جيل من المسرحيين والشعراء والنقاد الذين أثروا الحياة الفنية بشكل خلاق وملفت. فالح عبد الجبار كان واحداً منهم، دؤوباً في الكتابة النقدية الجمالية، وكنت ألمحه دائماً في بروفات المخرج الطليعي ابراهيم جلال، وفي الأعمال التي يقدمها «المسرح الفني الحديث»، إحدى أهم الفرق العريقة في الحياة المسرحية العراقية في السبعينيات. امتازت مقالاته التي كان ينشرها في مجلة «المسرح» بالعمق والغنى الكبيرين، كيف لا وهو الذي التهم روايات دستويفسكي وتولستوي وبلزاك وغوغول وتشيخوف وبيكيت وغوته. وربما كانت إحدى أهم مميزات عبد الجبار هي دقة التحليل وفرادته، مع أنه أظهر ولعاً واهتماماً كبيراً بالفلسفة وعلم الاجتماع في الثمانينيات والتسعينيات حتى يومنا هذا، ومن ثم تحول إلى عالم سوسيولوجي. وبرغم أنه اهتم في الأيام الأخيرة بتركيبات الطوائف والمذاهب العراقية واشتغل على بحوث مكّنته من رصد التطورات الجحيمية في الحياة السياسية العراقية، لكنه ظل مشدوداً بقوة الى الأدب والمسرح والسينما والفن التشكيلي. ومن خلال قربي منه في السنتين الأخيرتين، فإن حضوره العروض المسرحية والسينمائية في بيروت كان جزءاً رئيساً من أجندته اليومية.
اهتم في الأيام الأخيرة بتركيبات الطوائف والمذاهب

أستطيع القول إن فالح عبد الجبار كان رجلاً متفرداً في رصده للثقافة العراقية والعربية والعالمية. أما على الصعيد الإنساني، فلم يسبق لي أن صادفت إنساناً شغوفاً بأصدقائه كما يفعل فالح. بيته ملاذ وبابه مشرع دائماً، وبألفة غير مسبوقة يرمي على ضيوفه إحساساً عذباً من المؤانسة والحوارات الحارة التي دار أغلبها عن تصدعات ما يجري في العالم بشكل عام وعن الوضع العراقي بشكل خاص. يستيقظ في الصباح مبكراً، وبشهية حارة يمسك الزمن من فروة رأسه ليحيله الى بؤر من اللقاءات والترجمات والانغماس في كتبه الشخصية. أدار معهد «دراسات عراقية» بحنكة حتى إنه حوله الى مشغل بحوث يندر أن تجد قريناً له. باحثون يتصلون من كل دول العالم، ومحاضرات في عدد من الجامعات في الدول العربية والأوروبية، وما أن يخيم الليل في بيروت يكون قد حان موعد الذهاب الى السينما باحثاً عن فيلم مميز في هذه الصالة أو تلك. كان ضليعاً بكوروساوا، وفليني وبازوليني، وشغوفاً بجاك نيكلسون وميريل ستريب وهوبكنز وبراندو...
في الآونة الأخيرة، انتابني إحساس عذب بالبقاء معه دائماً. وعندما أغادره للعمل هنا وهناك، أحسّ بغصة كبيرة، كأنما صرنا روحين في جسد واحد، أو جسدين في روح واحدة. موجع رحيلك يا فالح، مع أني أحس بأنك سافرت إلى نفق بعيد في وجعي.

* مخرج مسرحي عراقي