بين لحى استشهاديين ولحى انتحاريين، وأخرى لا تحمل هوية أو انتماء، أرخى رضوان مرتضى لحية من نوع آخر، ازدحمت بين خيوطها أسرار الأبيض والأسود، لتنتهي بمزيج رمادي من الحقيقة بوجوهها الأربع.على هذا النحو، اجتمعت سطور نحو ثلاثمئة وخمسين صفحة تحت عنوان «هكذا أرخت الثورة السورية لحيتها» (دار الفارابي). في كتابه، قدم لنا الصحافي الشاب سرداً معلوماتياً وقصصياً معززاً بمصداقية النقل الميداني عالي الاحتراف، فحدثنا عن تلك الخلطة السرية بمكونات سلبت مخيلة القارئ الى طبق دسم بالأضداد والتناقضات، حتى تذوقنا بشهية الفضول مرارة الفقر والجوع حيناً وملح الحياة المنهوبة بسطوة المال والأيديولوجيا حيناً آخر، مع قدر لا بأس به من الانعتاق الذاتي نحو الإجرام والتعصب والكراهية.
آثر الكاتب خوض الغمار الأصعب في واحدة من أشد ساحات الصراع ضراوة، عانق باندفاع قل نظيره شراسة الحرب المستعرة زوراً، أغرته مغارات الجرود، ولذعات الشمس الحارقة على الصخور، سلك المعابر اللاشرعية ولهث طويلاً على الطرق الوعرة حتى رمى بنفسه بين أحضان الهدف. هناك في عتمة دهاليز مظلمة جمعت شمل رفاق اللحى والسلاح. جغرافيا الأحداث ممتدة من لبنان إلى سوريا وحتى العراق... مساحة مثيرة بما يكفي ليسيل أمامها لعاب صحافي امتهن البحث والاستقصاء.
قصص وحكايا جالت بالقارئ بين مخيمات وأحياء وأزقة ومغارات، وبين شخصيات ما يفرقها أكثر مما يجمعها، وإن أبدى الجميع حرصه على اللحية!
بين قصة وأخرى، تتأرجح الأحاسيس والانفعالات، يلهبك التعاطف حيناً ويبعدك النفور حيناً آخر، تتوقف باحثاً عن صفة أو هوية للشخصية صاحبة النص، عن أي «جهادي» نتحدث؟ جلاد هو أم ضحية؟ غرّر به فعلاً أم كان سيد قراره؟ هل انساق وراء سلطة أو مال؟ أو ربما حوريات برع بعض خطباء الدعوة بالترويج لهن، وإشباع مخيلته بلحظة وصالٍ قريبة، الطريق إليها يمر فقط بحزام ناسف أو سيارة مفخخة.
متحدياً المخاطر، متجاوزاً الكثير من المطبات الأمنية والاستخباراتية، نجح رضوان مرتضى في كسب ثقة شريحة كبيرة من أصحاب اللحى وحملة الأحزمة الناسفة، لم يتحدث إليهم فحسب بل عايش نمط حياة اختاروه لأنفسهم. شاركهم الطعام والشراب والصلاة، من دون أن تسجل له سقطة واحدة أمام مغريات دنيوية أو أخروية تكتظ بها كتبهم وتسجيلاتهم وخطاباتهم. بل إن الأخير نجح في استفزاز قلقنا أكثر من مرة عندما استشعرنا معه هاجس الموت يتسلل إليه خاطفاً انتباهنا إلى لحظات مريبة ومعقدة كان فيها أقرب ما يكون إلى سكين يمكن أن تحز رأسه في أي ثانية.
جغرافيا الأحداث ممتدة من لبنان إلى سوريا وحتى العراق


وعليه يسجل لمرتضى القدرة على التمويه وسرعة البديهة في تخطّي اللحظات الدقيقة والشائكة، والتصرف بحنكة ودهاء وكل ما تستلزمه عناصر العقل الأمني والاستخباري في ظروف كتلك التي عمل على مسرحها. وكان ذلك جلياً في أكثر من فقرة، لا سيما عندما رافقناه نحبس أنفاسنا من الفندق الدمشقي إلى مركز الأمن العسكري في كفرسوسة. بدا الأمر أشبه بلقطة مشوقة من فيلم بوليسي نجا فيها البطل بأعجوبة بعدما كاد يختفي أثره في غياهب سجونٍ الله وحده يعلم بمصير القابعين خلف قضبانها. هنا، تحرر وحرر عصفوره من قفصه، وتحررنا معه مدركين أنّ الحرية لا تقبل التجزئة ولا تفصل على مقاس أحد وأن كل الضوضاء من حولنا عمادها الجهل بالآخر، وغلبة الأمية الفكرية والسياسية ترسيخاً لمعادلة الإلغاء وتكفير الآخر عقائدياً ومذهبياً، مع جشع لا محدود نحو المال والانخراط في لعبة مصالح قذرة، اتحدت جميعها كأداة محركة لدينامو الصراع المتدحرج نحو المزيد من الدم والنار.
«هكذا أرخت الثورة السورية لحيتها» وثيقة تحاكي العقل والوجدان من قلب الميدان، تنقلنا بموضوعية إلى بؤرة الصراع وكواليسه الصادمة، لتتركنا تائهين أمام سيل من الأسئلة المشروعة:
عن أي «جهاديين» نتحدث؟ ما بال أولئك الناس يؤدون دورهم على مسرح الموت مدفوعين بحقد أيديولوجي مفتعل رافضين إسدال الستارة حتى الرمق الأخير؟ من نصب بعضهم شيوخاً وأمراء وقادة على طريق النهب والسلب والقتل؟ ما ذنب من قذفت بهم الحرب إلى صحراء التشرد، إن لم يقتلوا ذبحاً أو رمياً بالرصاص، فتك بهم الجوع والعطش؟ أين الطبقة الحاكمة في الأصقاع العربية المنشغلة بحرب المحاور على حساب الدماء والآلام؟ اين الإنماء الاقتصادي والاجتماعي ومقاعد الدراسة، أم أنّ أحزمة البؤس تركت لمصيرها تخرِج أحزمة ناسفة وقودها جيل أضل الطريق.
أخيراً، انتحل الصحافي رضوان مرتضى صفة انتحاري، اقتحم أزمنة وأمكنة، كشف ستر الغرف السوداء وعقر دار المؤامرات، فتناثرت الأكاذيب والأضاليل شظايا متفحمة على أعتاب الحقيقة. ويبقى السوال: ألم تكن ويسكي أبو علي حربة على سبيل المثال أفضل له من لحية أرخاها زوراً، فأخطأت حجمها حتى بلغت صدره، من دون أن تنجح في حجب ما اقترفه بحق نفسه وحق الإنسانية جمعاء؟!