يبدو، أحياناً، أن الهالة المحيطة بالكتب والملكيات الثقافية، تؤسس تحولاً غريباً يحيل الأشياء إلى كياناتٍ من لحمٍ ودمٍ. يمكننا أن نكتشف أن هذا التحوّل، حين يظهر على شكل أنسنةٍ، هو أمرٌ مزعجٌ لأنه يحوي في بواطنه، بوعي أو من دون وعي، تبديل الحقيقي بالرمزي. بكلماتٍ أخرى، يعرض المسّ بالكتب، أكثر من مرة، على أنه عملٌ بالغُ الفظاعة، لدرجة أننا قد ننسى أن هذا المسّ هو ملحقٌ زائدٌ بالمس الفظيع والمخيف بجماهير البشر. لكن الحالة الإسرائيلية تبدو مختلفةً بعض الشيء، إذ يستحيل المسّ في الحالتين مُنكراً أو نوعاً مشدداً من الحماية التي يتم تبريرها بمعيّة عدم وعي العقل الفلسطيني «القاصر»، خصوصاً أنّه في عام 1948 توازى زمنان، أو ربما عاشا على مرمى مفارقةٍ من كليهما بالمعنى الظاهر فحسب. غير أنّ زمناً طغى على آخر واستبدّ به، لنمشي حفاةً على تخوم رهبته، فتكون النكبة، فيما الآخر بقي يحمي جلده من النزوح في انزواءٍ، ليكون البقاء. بيد أنّ الأخير عُطّلت حواسه في الكتابة لسنواتٍ طوالٍ، إذ كان الكتّاب والمؤرخون أكثرَ قدرةً على الإمساك بحدود اللجوء ومآلاته، كما كان زمن التهجير أكثر مباشرةً في الإحالة إلى معنى الصراع، أو كما يسميه إدوارد سعيد الصراع الغني بين ذاكرتين، وضربين من المخيلة التاريخية.بذلك، عاش الفلسطيني معركةً محتدمةً على جبهة كتابة التاريخ، وصراعاً لن ينتهي مع المؤسسة الأرشيفية الإسرائيلية، على اعتبار أنّ ثمّة تواريخَ وذكرياتٍ مخفيةً عنا ومطموسةً داخل هذه الأرشيفات، وأخرى مقيّدة بشروط هوية المتلقّي، وأخرى بدأت تتكشّف مؤخراً وأتيحت لأصحاب الهوية المنافسة الأصلية. بالمقابل، تدّعي المؤسسة الأرشيفية الإسرائيلية، وخاصة «المكتبة الوطنية»، أنها تحفظ إرثاً تاريخياً يخصّ العرب أو الفلسطينيين من منطلق «متنوّر»، وبدون التأثر بالعداء أو الصراع السياسي بين الإسرائيليين والعرب. فما حدود هذا الموقف «المتنور»؟ وهل ينطوي الأرشيف على آليات إمحاء في قالب حفظ التاريخ؟ هل هناك سرديات كبرى صهيونية تحكم الممارسة والخطاب الأرشيفي الإسرائيلي (مواد تُفتح ثم تُحجب)؟ وما هي استخدامات الأرشيف الممكنة؟ وهل من الممكن أن نستمع بوضوح إلى «همسات المستعَمرين» المدفونة في الأرشيف، وقراءة الأخير بطريقة نقدية تتيح لنا تتبع منطق ما تم محوه أو تغييبه من داخل الأرشيف نفسه؟
ما سبق يدفعنا إلى ما سمّاه إدوارد سعيد «اختلاق الإرث»، وهو منهج لاستخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما للكلمة من معنى. من هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة، إذ إنّ «وجود الأمة وفاعليتها واستمرارها في تمثيلات سلطوية، لها فاعلية في إنتاج الحقيقة في سرديات ومرويات، وأن القوة في ممارسة السرد، أو في منع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة». وهو كذلك ما يفسّر أن الذاكرة كما يقول المؤرخ الفرنسي بيار نورا، إجمالاً، حُفرت وخُزنت منذ مطلع القرن التاسع عشر داخل الملاجئ الخاصة بمراكمة الشهادات والسجلات، التي تحمي وجودها في وجه المعضلات والتناقضات التي تشكل تهديداً لها. بالتالي، كي يعبّئ الصهيوني نفسه في المكان، عليه أن يعبّئ نفسه بالدرجة الأولى في السرد والثقافة الضدية للفلسطيني الأصلي.
بناءً على تلك النظرة، لا يُعتبر الأرشيف موقعاً للمعرفة التي تُجمع ببراءة ونزاهة، بل هو موقع لخلق القوّة وتنظيم الهوية. بمعنى آخر أكثر تكثيفاً، هو سيطرة على الذاكرة، إذ لا وجود لسلطة سياسية من دون السيطرة على الأرشيف. هو لا يوثّق دوماً التجربة التاريخية بل غيابها. يشير ريكاردو بونزالان إلى أن «الأرشيفات الوطنية، سواء كمؤسسة لخلق استعماري أو كمجموعة من سجلات التحكّم الاستعماري، تهدف لتعزيز الفكرة المتخيلة عن الأمة». بالتالي، من أجل بناء هذه الأمة اليهودية، هناك رباطٌ جدليٌّ ينظم عمل الأرشيف محوره النفي: نفي المنفى، ونفي الشرقانية والدين، ونفي الفلسطينيين على وجه الخصوص. غير أن هذا النفي نُظر إليه عبر مصطلحات ومفاهيم متعلقة بخلاص تلك الملكيات الثقافية وعدم جدارة الفلسطيني بصون إرثه الثقافي، بشكلٍ متشابكٍ مع مفهمة بناء الأمة التي أُبعد الفلسطيني عن تخومها، وجرى صكّها بكون المجموع القومي يهودياً وحصرياً. كذلك فإنّ محاولة «إسرائيل» الحثيثة لغسل نفسها ممّا تعتبره وصمة قبوعها في الشرق الأوسط، اُستعيدت عبر الملكيات الثقافية وصوغ سردية الدولة من داخل الأرشيف نفسه، وذلك بإعادة أمْثَلة ومنطق الاستشراق كإطار يصلح بجدارة لصوغ السؤال اليهودي نفسه، وبمصطلحات استعيرت مباشرةً من الخطاب الذي بررت أوروبا بواسطته سيطرتها الكولونيالية على الشرق، بعدما كان ذاك الخطاب مناهضاً لليهودية في أوروبا بالدرجة الأولى.
وانطلاقاً من أن الأمة المعاصرة شكل من الوعي والإحساس والتفكير، ومن الهوية الذاتية، وبكونها متخيلة وناتجة من وعي من يفترض بهم أن يكونوا مواطنين فيها، فإن الأمة في أمس الحاجة إلى الذاكرة. فالذاكرة هي الجسر الممتد فوق الهاوية السحيقة بين الماضي والراهن. إن ذاكرة القومية الممزقة، المنغرسة دوماً داخل سياق استبدادي ومنوط بإنكار الذاكرات المتنافسة، بحاجة إلى الحماية والرعاية. معنى ذلك أنّ الأرشيفات الصهيونية هي نوع من التحايل على بناء ذاكرة وليدة تستأنف على نفسها بنكران غيرها تارةً، أو بالاحتفاظ بالذاكرة المنافسة بشكلٍ مُحتكَر يمنع وصول أصحابها إليها طوراً، أو باعتباره مصدراً استخبارياً عن الهوية المنافسة وتمثّلاتها المجتمعية بهدف تجذير السيطرة عليها، مثلما حدث مع «ملفات القرى» داخل الأرشيفات الصهيونية.
* هل بإمكاننا الاستماع إلى همساتنا من داخل الأرشيفات الصهيونية؟
في دراسته «المواد والوثائق المتعلقة بالفلسطينيين في الأرشيفات الإسرائيلية»، يقدّم مصطفى كبها مداخلةً يمكن اعتبارها تقنيةً إلى حدٍّ ما حول الأرشيفات الصهيونية، بهدف تحديد نوع المواد والوثائق داخل الأخيرة. فهناك مواد تحوّل الفلسطيني فيها إلى معطى للتشييء والاختبار والبحث (معظمها كُتب بالعبرية والإنكليزية)، مُسوّرة بعدة أهداف: منها الاستخباراتية أو المعلوماتية أو البحثية، مثل ملفات القرى أو معلومات مفصّلة عن المدن العربية الفلسطينية وفعالياتها المتعددة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه غالباً ما تم تحييد المدينة لصالح القرية، حتى على مستوى البحث الأرشيفي، على اعتبار أن القرية هي الأكثر جدارة في صوغ سؤال الفقد المادي للأرض. بمعنى أنه عندما تحوّل اقتلاع القرية والعشيرة والحمولة من أرضها بدلاً من تذريرها أفراداً، إلى سمة الحداثة الفارقة، تحول الانتماء إلى القرية والعشيرة والحمولة وغيرها إلى جسر لتعميق الانتماء إلى فلسطين لدى الأفراد المذررين، وهو ما يفسّر سيطرة ملفات القرى على العقلية البحثية، على حساب الوثائق الأخرى المتعلقة بالمدن، رغم أن الأخيرة انفتحت على معلومات مفصلة حول: العائلات المدينية وأصولها، الأراضي وملّاكها، والنشطاء السياسيين وصانعي الرأي العام، المقاهي ودور الملاهي وملاكها وروادها.
بخصوص ملفات القرى التي ضمّت معلومات تفصيلية عن 380 قرية، يقاربها كبها من ناحية أنها في العادة كانت في تاريخ سابق على المطاردة والاحتلال. بمعنى أن القوات كانت عند احتلالها القرى تعتقل وتطارد رجالاً كانت أسماؤهم قد وردت في قوائم أعدت سلفاً للرجال الفلسطينيين القادرين على حمل السلاح، أو من اشترك في الثورة الفلسطينية الكبرى. على المقلب الآخر، ثمّة ذاكرة كاملة برسم الفلسطيني داخل الأرشيف تعرضت لاستلاب مادي ورمزي، جمعت منذ نهاية العهد العثماني، مروراً بفترة الانتداب البريطاني، والتي شهدت تعنيفاً حتى في تصنيفها؛ تحت اسم «مواد غنائم» أو «وثائق متروكة» مثل: وثائق اللجنة التنفيذية العربية، وثائق المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وثائق اللجنة العربية العليا، وثائق الهيئة العربية العليا، وثائق الأحزاب الفلسطينية.
كذلك، فإنه في عام 1948، كان «قد صودر من القدس وحدها أكثر من 30 ألف كتاب، تحديداً من أحياء القطمون والطالبية والمصرارة. على وقع ذلك، تركّبت علاقات قوى بين الفلسطيني والصهيوني؛ التنازل في مقابل المخاطرة. فخلافاً للفلسطينيين الذين صُوِّروا كمن تنازلوا عن ممتلكاتهم الروحانية، وُصف عاملو الجامعة العبرية في القدس كمن خاطروا بحيواتهم من أجل هذه الممتلكات، بغرض إبراز الهوّة السحيقة بين الشرقي اللامبالي بثقافته، والصهيوني الغربي القادر دوماً على التعالي على كل ما سبق». يقول العامل في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، شلومو شونمي، الذي ترأس حملة تجميع الكتب في أكياس القمح الكبيرة: «إبان حرب الاستقلال، دبَّر بيت الكتب عملية واسعة لإنقاذ الكتب من التلف في الأحياء العربية المهجورة. ونتيجةً لذلك، جُمِعت عشرات آلاف الكتب، وهي محفوظة كوديعة إلى حين التيقن من مصيرها». تبرز هنا مفارقة صارخة ولافتة في آن واحد، تنطوي على عملية الأرشفة الصهيونية برمّتها، إذ إن الإفراط في الإخفاء والتصنيف التغييبي لحيازات الفلسطيني يعني ضمنياً الاستقتال على حفظها وصيانتها، خصوصاً أن «الأرشيف يتذكر ما نسي منه وما تم محوه منه، ويوثق الظلم، وبالتالي يجعل من الممكن تتبع مساراته، بل ويمهد الطريق للتواريخ المنسية التي يمكن أن تمثل يوماً ما إدانة ضد أصحاب هذه الوثائق».
السؤال هنا هو: كيف يمكن لنا أن نستهدي بقراءة نقدية للأرشيفات الصهيونية بمختلف أنواعها، خاصة أنها لا تعتمد فحسب على تقنية الجهر والإسكات أو الحجب والإبراز أو السلب والنهب عامةً، بل كثيراً ما تؤلّف خطاباً ومصطلحاتٍ تمارس قوتها حتى يومنا هذا؟ وما هي آفاق استعادة تاريخنا الاجتماعي ــ تحديداً ــ من قبضة الأرشيفات، باستخدام تلك الأرشيفات كمرجع، لكن منقّح من التغليف السياسي له؟ هل بذلك نمارس فعلاً تحررياً أم إعادة تكريس للبنية الأرشيفية الاستعمارية ولو بطريقة فيها نوعٌ من المواراة أو المداراة؟ ملفات القرى أو ما كشف مؤخراً عن «المقاهي العربية في حيفا» أو حتى أرشيف «جرايد» الضخم والمتاح إلكترونياً أو حتى أرشيفات المستعمرات والمستعربين؟ وكيف لنا أن نعالج الازدواجية في مبنى ذاك الأرشيف، باعتباره أولاً موقعاً لتغييب الذاكرة الفلسطينية، وثانياً باعتباره موقعاً يحوي حقائق كثيرة عن الفلسطيني ومواجهة الصهيونية لها بأفعال جائرة، والتي بالإمكان إعادة كتابتها باسم الفلسطيني ورسمه وإدانة أصحابها، واستخدامه حتى في كتابة مرحلة ما بعد النكبة والتهجير (الحكم العسكري تحديداً) التي لا يتم التركيز عليها كثيراً، بل أحياناً تصوّر الرواية الفلسطينية أنها غير قادرة على استنطاق نفسها من دون اللجوء إلى هذه الأرشيفات الاستعمارية.
تحاول الباحثة جانيت باستيان الإجابة عن هذه الأسئلة بهدايتنا إلى ما تسميه «همسات المستعمَرين المدفونة داخل الأرشيفات الاستعمارية»، على اعتبار أن «ليس ثمّة أي مدخلات لهم في عملية إنشاء هذه السجلات»، لتتناسل أسئلة عدة من ذلك، تطرحها باستيان بذكاء: كيف يمكن لهذه المجتمعات استعادة تاريخها؟ كيف يمكن لأصوات أولئك الذين كانوا صامتين أن تتم معالجتها واستردادها؟ كيف يمكن للمجتمعات المحلية التي كانت ضحية السجلات استخدام هذه السجلات لبناء هياكل موثوقة وإيجابية من ماضيها؟ جزء من إجابتها عن هذه الأسئلة يكمن في حقيقة أن الأرشيفات يمكن أن توفر مفاتيح، إذا كان الباحث يتعرف على السجلات على حدّ سواء؛ النص والنص الفرعي. وبالتالي، تكون هذه الأرشيفات هي كلٌّ من الأدلة والعمل، ووراءها يكمن الأثر. وقد وصفت مفهوم «همسات في الأرشيفات» الذي يعتمد على اكتشاف كلمات أو أعمال المستعمرين، وبالتالي إعادة قراءتها بما هو أسفل من السطح وتعطيل النظرة الكولونيالية فيها، وردّه إلى معقله الخطابي الأساسي، وتفكيكه لمفاهيم أسّس لها الأرشيف الذي أدّى دوراً بالضرورة في تأسيس دولة العدو؛ ومنها «المتسلل» و«المخرّبون» و«المنظمات الإرهابية».
* عن بناء الأرشيف لمفهوم «المتسلل»
تنطلق أريئيلا أزولاي في دراستها «التوثيق الفوتوغرافي: النهب والأرشيفات وشخصية المتسلل»، من أن تصنيع فئة المتسللين تحديداً يتم في الأرشيف، على اعتبار أن المتسلل لا وجود له، وهو تأكيد سياسي ــ تاريخي على أنه ليس للأرشيف القدرة على التأكيد أو النفي، وأن استمرار وجود هذه الشخصية دليل على طبيعة المواطنة، والأرشيف، وعلى الثقافة في الأماكن التي تم فيها تطبيع هذه الفئة ضمن الخطاب. عمليات النهب هذه لا تعتبرها الباحثة انتهاكاً للأملاك والحقوق الفلسطينية فحسب، بل أيضاً عملاً متواصلاً من أعمال السيادة الوطنية تؤدي فيه شخصية «المتسلل» دوراً أساسياً، وهي كانت أحد الأفعال التي جرى من خلالها ممارسة تلك السيادة كمشروع دائم لتقسيم السكان إلى مجموعتين متمايزتين ومختلفتين، يكون العنف بينهما هو الذريعة والنتيجة. بذلك، يكون الأرشيف وسيلةً لممارسة السيادة الوطنية، لإظهار أنّ مفهوم السيادة لدى المفكر الألماني كارل شميت، كقوة متوقفة على لحظات استثنائية وجيزة لاتخاذ القرار، يفترض السيطرة الكاملة على الأرشيف، ومحو آثار الصراع على السيادة الدائرة فيه ومن خلاله. حتى في كتابها «من فلسطين إلى إسرائيل: سجل تصويري للدمار وتأسيس الدولة»، تعيد أريئيلا أزولاي منطقة عمل المؤرشفين وحتى المؤرخين والباحثين إلى مسألة تطبيع العنف، باعتباره مجالاً لا يمكن التفاوض بشأنه، في حين يتم تصوير الأرشيف كمؤسسة نزيهة مستقلة تحفظ الماضي وتقدّسه، رغم أن «استبعاد الفلسطينيين عن الوصول للأرشيف هو ما يمنع انهيار قاعة المرايا التي يحاصر اليهود الإسرائيليون في داخلها، وهم يشاهدون، إلى ما لا نهاية، انعكاس وجهة النظر التي فرضتها السيادة التمييزية بالقوة»، والذي يتضافر مع «قانون الأرشيف» الذي تم تنظيمه عام 1951، ونصب قيوداً عدّة على الوصول، واعتبر مواد المحفوظات «وثائق موجودة في أي مكان، وذات أهمية في دراسة الماضي، الشعب، الدولة أو المجتمع، أو تتعلق بذكرى أو بأعمال شخصيات مشهورة»، منطلقة بذلك من فرضية بديهية باعتبار ذاك «الماضي» و«الشعب» و«الدولة» و«المجتمع» حصراً لليهود.
تحيل هذه الدراسة إلى نقطة جوهرية تتعلّق بخطاب الأرشيف، وهي أنه رغم إتاحة الأخير بعضاً من المواد المنهوبة، وعدم تغطيتها على عمليات النهب بحدّ ذاتها؛ غير أنها عرقلت دلالتها ومنعت من ظهورها كجريمة، إذ في كل مرة كانت تطفو تلك الدلالة على السطح، كان الأمر يتخذ شكل الاكتشاف الخارق، كأن المسألة غير متعلقة بشيء قد يكون معروفاً بديهياً عند الضحية، ولا تعدو إيجاداً لما فُقد وسُلب، على أن يتمّ في كثير من الأحيان غسل الأرشيفات المسروقة من خطابها الحقيقي، وصكّ بنية أخرى تتجاوز بصراعها على حدود اللغة إلى صراع على الأرض؛ وهو ما أبانت عنه الباحثة الإسرائيلية في التاريخ البصري الفلسطيني داخل أرشيف الجيش تحديداً، رونا سيلع، إذ بقي جزءٌ من الأفلام الفلسطينية في أرشيف الجيش يحمل عناوينها الأصلية، وفي حالات أخرى كثيرة أعيد تصنيفها في ما يتوافق مع منظور المستعمر. هكذا، استحال مثلاً المقاتلون والثوار الفلسطينيون مجرّد إرهابيين أو عصابات، واللاجئون كائنات متفننة في التسلل.
* الذاكرة الفلسطينية البديلة
مقابل تلك الأرشيفات الاستعمارية، تبرز حاجةٌ ماسّةٌ لبناء ذاكرةٍ مضادةٍ بديلةٍ تحفر في بطن المواجهة من الأسفل، وتُرخي آذان الكتّاب والمؤرخين لروايات «مَنْ هم تحت»، من دون العلوق في التعالي النخبويّ التدوينيّ وتاريخ الهزيمة والمجازر والتهجير، بل التوجّه نحو إحياء نماذجَ من المقاومة والتحدي، خصوصاً لو عرفنا أن هذه السير تحتفظ بها الأرشيفات الصهيونية. وبالتالي، ثمّة إمكانية لمساءلة ممارسات المقاومة والصمود والفشل أمام التهجير في فترة ما بعد الحرب، كي نستكشف طرقاً لحاضرنا تتعدى القانونية منها وجماعات تتعدّى الدولة والمواطنة، وهو ما ينجح فيه المؤرخ الفلسطيني، عادل مناع، في كتابه «نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل 1948 ــ 1956» الصادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» قبل عامين، بعدما بقي زمن البقاء رهين ذاكرةٍ مكتومةٍ ومكبوتةٍ، من دون أن يعني ذلك ــ بالمطلق ــ أن البقاء كان فائضاً أو ترفاً لم يبلغ المهجّرون مداه، بل كان يحوي في بواطنه مساً فظيعاً بالبشر وهوياتهم لا يمكن إحالته إلى ثنائية جامدة بجانب النكبة.
يحفر الكتاب عميقاً في «رواية المهزومين» التي لطالما حُيّدت منطقتها البحثية لصالح «رواية المنتصرين». كما يحاجج بأنّ البقاء لم يستنفد الهزيمة ويتواطأ معها، بل تحايل على الزمن الذي ولّدته، وخبّأ من ورائه حساسية طائفية وجغرافية معينة. وعلى اعتبار أن ثمّة تداخلاً فتاكاً بين معنيي النكبة والبقاء، جاء الكتاب مُستأنفاً على صورة الجليل المطبوعة في أذهاننا، التي تحيلنا للوهلة الأولى إلى استعارةٍ مضللة عن بقاءٍ نقيٍّ أو بقاءٍ مشوبٍ ببضع تهجيرٍ. غير أنّ الحقيقة تعلو على المجاز، لتكون النكبة على تماسٍ واضح مع غريمها البقاء، إذ هُجّر حوالى نصف القرى الجليلية، وبقي فقط حوالى 100 ألف فلسطيني في شمال البلاد بحلول عام 1949، كانوا قد عبروا طريق الآلام جيئةً وإياباً. في هذا الكتاب، يحلّل منّاع أسباب البقاء وحالات عدم الطرد في القرى الدرزية ومدينة الناصرة ومناطق أخرى في الجليل، بناءً على خارطة طائفية واعتبارات سياسية وأمنية معقّدة، مع بقاء كتابه ـــ كما حكايات الفلسطينيين الباقين في الأراضي المحتلة ـــ في منطقة رمادية ما بين الخاص والشخصي، والعام والتاريخي، مستهلاً الكتاب بحكايته الشخصية التي عاشت زمن الخرائط المتنقلة، من مجد الكروم في الجليل إلى نابلس ثم العيش طفلاً لاجئاً في مخيم عين الحلوة في لبنان لعامٍ ونصفٍ، قبل أن يعود بجسده الغض وأهله إلى بلدته مجد الكروم عام 1951.