في 21 آب (أغسطس) عام 1969، بعد أكثر من عامين على احتلال إسرائيل القدس الشرقية في عدوان حزيران (يونيو) 1967، أشعل صهيوني اسمه مايكل دينس روهن (1941-1995) النار في الجناح الشرقي للجامع القبلي في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى، فأتى الحريق على الجناح وموجوداته، لا سيما المنبر التاريخي المسمّى: منبر صلاح الدين. ونتيجة لذلك، قامت هبّة شعبيّة في فلسطين والبلاد العربيّة والإسلاميّة، أدت إلى عقد أول مؤتمر للدول الإسلامية في المغرب.في ذلك الوقت، كلفتني مجلة «الهلال» المصريّة كتابة تحقيق تاريخي عن بوابات القدس، نُشر في عدد خاص عن القدس، أصدرته المجلة في كانون الأول (ديسمبر) عام 1969. هذا التحقيق هو الذي أعيد نشره هنا.

الباب الذهبي

لكن قبل القراءة، لا بد من ملاحظة تاريخيّة مهمّة، هي أن الكثير من القصص والأساطير أحاطت بهذه البوابات، وانتشرت في مختلف الروايات عنها، ونَسب كثير من هذه الأساطير بعض الأماكن إلى الملك داود والملك سليمان، وإلى التاريخ اليهودي المزعوم في المدينة المقدسة. إلا أن الحفريات الأثريّة التي أقبل عليها الصهاينة بحماسة شديدة، بعد احتلال المدينة القديمة، عام 1967، لا سيّما وزير «دفاعهم» موشي دايان، خيّبت آمالهم التي كانوا يبنونها على اعتقادهم أنهم سيعثرون أخيراً على الأدلة الأثرية لتاريخهم المزعوم. لم يعثروا حتى الآن على شيء من هذا، سوى قطعة نقد وحيدة، تباهى بها بنيامين نتانياهو، رئيس وزرائهم، واتخذها «دليلاً» على «صحة تاريخهم».
لذا تُرجى قراءة التحقيق، وفي الذهن أن كثيراً مما قيل في البوابات، ليس سوى أساطير شاعت في الروايات المختلفة، وفي بعض المعتقدات الشعبيّة، وليس لها أي إثبات تاريخي علمي، على رغم امتزاجها ببعض الأحداث التاريخيّة المقبولة علمياً.
أيار 2018.
أستعين في جمع معلومات هذا التحقيق، بأحد قدماء الأدلّاء السياحيّين الفلسطينيين، السيد أنطون جلّاد، والسيد واصف جوهريّة، وهو صاحب مجموعة خاصّة ثمينة جداً، من الصور التاريخيّة والتذكارات المتعلّقة بتاريخ فلسطين الحديث، وبكتاب «أبواب القدس» (سالوموني ستيكول)، الذي قدّمه مشكوراً «مركز الأبحاث الفلسطيني»، التابع لـ «منظمة التحرير الفلسطينيّة» في بيروت.
تقول الروايات المتناقلة بين مسلمي القدس، إن الخليفة عمر أتى بالأسدين إلى باب «ستنا مريم»


إن أول ما يثير العجب في معالم القدس المعماريّة، هو ذلك الثراء الذي تمتاز به، وتلك الكثافة التاريخيّة التي تتجمّع عند أسوارها، وخلف بواباتها. لكأن التاريخ ركّز عصارته داخل هذه المدينة ومن حولها، فحمل لكل حجر فيها جعبة مكتظّة بالقصص والأساطير والأحداث المتوالية منذ 30 قرناً أو أكثر. لكأن التاريخ يتجوّل في النهار على العالم، ويعود ليلاً ليستقر في مدينته الفضلى. لكأن التاريخ أراد أن يسجّل على أسوارها، وفي معالمها الغنيّة مرور مختلف العصور، من عصر داود وسليمان، إلى عصر هيرودس [الإيدومي العربي] والمسيح، إلى عصر جستنيان، فعصر نبي الإسلام الكريم، إلى عصر الاحتلال الصليبي، إلى عصر صلاح الدين الأيوبي العظيم، إلى عصر السلطان سليمان القانوني وعصر عبد الحميد آخر سلاطين إمبراطوريته، حتى عصر دايان وبن غوريون، عصر إحراق المسجد الأقصى، والاغتصاب والعدوان على حرية الإنسان وعقائده.
أمثولة التاريخ نقرؤها على أسوار القدس، ونستشفّها على أبوابها منقوشة لتشهد بأن العبرانيّين حاربوا الفلسطينيين عام 1040 قبل المسيح، ثم مضى العبرانيّون وبقي أبناء البلاد، وبأن الصليبيّين استحلّوا الدين مبرراً لأغراض في نفوس ملوكهم، فانتصر أبناء البلاد مرّة أخرى، وبأن المنطق الذي سقط مرتين، لا بد من أن يسقط هذه المرّة، لأن التاريخ لا يمكن أن يكون أخطأ في المرتين السابقتين، بخاصة أن موشي الجديد، نبي الصهيونيّة، لا يملك أن يجفّف البحر الأحمر، ولا أن يُغرِق فيه القادمين إليه من أرض النيل، لا سيّما أنه هو الذي يلعب اليوم دور «جالوت» أمام «داود» العرب، الشعب الفلسطيني.

باب حُطَّة

هذا العرض يرمي إلى التعريف بأكبر وأهم بوابات القدس، من سورها الخارجي. والمعروف أن هذا السور كان موضع شدّ وجذب طوال قرون. كما أنه ليس السور الذي عرفته القدس، على مدى عصورها.
فكنيسة القيامة، التي يعدّها المسيحيّون، عدا البروتستانت، موقع صلب المسيح، فيما كان هذا الموقع خارج أسوار القدس الهيروديّة، والأسوار الحالية، والأبواب القائمة في بعض أنحائها، شُيِّدَت في أيام حكم السلطان سليمان القانوني العثماني (1537-1941)، باستثناء بعض بقايا الأسوار والبوابات الباقية من العصور الصليبيّة وغيرها. وعند بناء هذا السور العظيم، استقدم السلطان العثماني أخوين للقيام بأعمال المعمار فيه. فانطلقا من منتصف الجانب الشرقي من السور، عند «بوابة ستنا مريم»، والتقيا بعد عشر سنوات ــ كما يذكر المؤرّخون ــ عند بوابة الخليل، في الجانب الغربي من السور. وقد بنى السلطان سليمان أيضاً سوراً داخلياً، يحيط بالحرم الشريف، وأقام فيه أبواباً لا تزال حتى الآن، من أفخر وأجمل الآثار المعمارية في القدس.

باب الخليل
يسمَّى بالإنكليزيّة Jaffa Gate، وهو الباب الذي يقع في وسط الجانب الغربي من سور القدس. ومنه طريقان: واحد إلى يافا، والآخر إلى مدينة الخليل «حيث الحرم الإبراهيمي مقام سيدنا إبراهيم الخليل». وقد أُقفل هذا الباب عام 1948، لأنه يقع عند الحدود بين القدس التي بقيت مع الضفّة الغربية، والقدس المحتلّة عام 1948. وهذا الباب كان على مر العصور، مدخل الأجانب إلى داخل السور، وكان يحرسه جنود مسلمون، فإذا أَزِفَت الساعة لصلاة يوم الجمعة، أُقفِل الباب، وذهب الحرّاس إلى الصلاة. وفي أحد أيام الجمعة من عام 1854، أُبقِيَ الباب مفتوحاً على نحو استثنائي، للسماح لدوق «برابان» وزوجته، اللذين تبوّآ عرش بلجيكا في ما بعد، بالدخول إلى المدينة القديمة، راجلَين. وكانت العادة، منذ أيام هزيمة الصليبيّين على يد صلاح الدين الأيّوبي، تقضي بعدم دخول أحد إلى المدينة على ظهر حصان، منعاً لإثارة شعور المسلمين. فالمعروف أن جودفروا دو بويون، القائد الصليبي، كان قد دخل المدينة فاتحاً على ظهر حصانه الأبيض. وقد انتُهِك هذا التقليد حينما سعى فيلهلم الثاني، إمبراطور ألمانيا لإعلان نفسه كبيراً لملوك المسيحيّين، وطلب من الصدر الأعظم أن يدخل القدس من باب الخليل، على ظهر جواد أبيض. وقد وجد الحاكم التركي وسيلة لإرضاء الإمبراطور الألماني، من غير أن يثير شعور المسلمين، فاستحدث فجوة في السور، لا تزال مفتوحة حتى الآن، على أنها باب الخليل، فمر منها الإمبراطور الألماني.

رسم تاريخي لأسوار القدس

وتقول أساطير يهوديّة إن العودة إلى القدس ستجري عبر «الباب الذهبي»، الواقع في الجزء الشرقي من السور، وقد أقفله صلاح الدين الأيوبي عام 1187، لمنع الصليبيين من استخدامه للعودة إلى المدينة المقدّسة. وعندما سقطت المدينة بيد الإنكليز في 11 كانون الأول (ديسمبر) عام 1917، دخلها جيش الفاتحين الجدد. وبعد دخولهم بيومين، اقترح مستشارو القائد الإنكليزي إدموند اللنبي عليه أن يفتح الباب الذهبي تنفيذاً للأسطورة، ويدخلها على جواد. غير أن اللنبي خشي ردّ فعل المسلمين، فدخلها راجلاً من باب الخليل، وبقي الباب الذهبي مقفلاً إلى اليوم. وتقع على مقربة من باب الخليل مباشرة «القلعة التركيّة»، التي يطلق عليها المسيحيون اسم «برج داود»، وهي القلعة التي احتلها الفرس في عام 614 م، في حربهم مع هرقل إمبراطور بيزنطة.

الباب الجديد
يسمّى بالإنكليزية The New Gate، وهو يسمَّى كذلك «باب عبد الحميد». وقد أقفل عام 1948، لأنه في الزاوية الشماليّة الغربيّة من سور المدينة، أي في الجزء الذي يحدّ القدس العربيّة، بحسب تقسيمها إثر الاحتلال الإسرائيلي. وقد أُطلق عليه اسم الباب الجديد لأنه جديد نسبياً، فقد أقامه السلطان العثماني عبد الحميد، بناء على طلب الرهبنة الفرنسسكانيّة، التي أرادت إحداث باب في السور قريب من دير الفرنسسكان وكنيسة «نوتردام» (السيّدة العذراء). وقد أُحدث الباب في عام 1887، وأعيد فتحه بعد احتلال قوات إسرائيل للمدينة القديمة في حرب عام 1967.
ويروى أن إنشاء هذا الباب في الأصل «بمؤامرة» تركيّة روسيّة فرنسيّة، ونُفِّذ فتحه في أثناء الليل، فلمّا ثار أبناء المدينة على ذلك، أصدر السلطان عبد الحميد أمراً بعزل المتصرّف ورئيس بلديّة القدس، فهدأت الحال... لكن الباب بقي مفتوحاً.

باب الزاهرة
يسمَّى بالإنكليزيّة Herod’s Gate. تشترك الديانات السماويّة في الإيمان بأن البشر سيُبعَثون في يوم الدين، أو يوم الحشر، أو الدينونة الأخيرة، أو يوم القيامة، وهي الأسماء المختلفة ليوم الحساب الأخير. ويعتقد اليهود أن قيامة الموتى ليوم الحساب، ستكون عند جبل الزيتون، الكائن إلى الشرق من السور. ولهذا، فإنهم أقاموا مقبرة لهم إلى الجنوب من كنيسة «الجثمانيّة» على مقربة من جبل الزيتون. أما المسلمون، فيؤمنون بأن الحشر سيجري على تل خارج السور، شمال القدس، اسمه «تل الساهرة». وقد سُمِّي أقرب الأبواب إليه بهذا الاسم. وهو باب يسمَّى بالإنكليزية «باب هيرودس». بقي الباب شبه مقفل طوال قرون، إلى أن أعيد فتحه بعد الاحتلال البريطاني، في أواخر الحرب العالميّة الأولى. وقد عُرف الباب باسم «باب الزهور» في حقبة من الزمن، واختلطت التسمية الأخيرة هذه بتسمية «باب الساهرة». وكانت المحصّلة الأخيرة أن سُمِّي الباب في النهاية «باب الزاهرة»، للأسباب التي سلف ذكرها.

باب العمود
يسمَّى بالإنكليزيّة Damascus Gate، ويسمّيه البعض «باب النصر» للاعتقاد بأن الخليفة عمر دخل القدس منه، عند إعلان العُهدة العمريّة. فيما يسميه البعض الآخر «باب دمشق»، لأنه يؤدي إلى طريق الشمال المتجه نحو سورية. وهو باب يتوسّط الجانب الشمالي من أسوار القدس. ويُعَدّ باب العمود المدخل الرئيس إلى مدينة القدس القديمة. وقد كان الداخلون والخارجون منه يتعرّضون لرصاص الإسرائيليين من الجهة الغربية، فأقيم في خارجه سور أمان يعدّ الحد الفاصل بين ما كان المنطقة الأردنيّة، والمنطقة المنزوعة السلاح في شمال القدس وخارج سورها.
وترى بعض المعتقدات الدينيّة، بناء على قول النبي حزقيال بأن القدس هي قلب العالم، إذ قال «نرى أن للقدس مركزاً». وتختلف المذاهب في أي المواقع هو مركز القدس، بحسب المذاهب والأديان. وأحد المعتقدات يرى أن هذا المركز هو كرة بيضاء موجودة في كنيسة القيامة، يطلقون عليها بالعامية اسم «نص العالم». والمعتقد الثاني يرى أنه الصخرة الشريفة في مسجد الصخرة. أما المذهب الثالث فيرى أن باب العمود هو مركز القدس. وتقول الأساطير إن خلق العالم بدأ من باب العمود.

مسلمون فلسطينيون مُنِعوا من الصلاة في المسجد الأقصى، فصلّوا في الشارع أمام السور

أما عن تسميته، فقد أقيم في العصر الروماني عند الباب داخل السور، عمود كان الرومان يقيسون ابتداء منه المسافة التي تفصل القدس عن بقية المدن المحيطة بها. وعلى رغم أن هذا العمود قد اختفى منذ قرون عدة، فإن العرب ربطوا الباب به حين سموه «باب العمود».
أما اليهود فيطلقون عليه اسم «باب شيخيم» أو «باب شكيم»، نسبة إلى مدينة قديمة في جوار نابلس. كان هذا الباب يفضي إلى الطريق المؤدي إليها. وقد جرى بناء هذا الباب في عهد السلطان سليمان القانوني. ولا تزال كتابة بالخط الكوفي ظاهرة عليه، يقول نصها: «لا إله إلا الله، محمّد رسول الله». ولقد كان باب العمود منذ قرون، أهم أبواب السور. وكان كبار الزوار في العهد العثماني يلكونه إلى داخل المدينة القديمة. وهو مكلّل ببرجين، وفي جواره بعض بقايا السور المشيّد في الفترة الرومانيّة والبيزنطيّة.
وبالنظر إلى القوانين التي كانت تمنع صلب ودفن أي كائن كان داخل أسوار القدس، قامت نظريّة تبنّاها البروتستانت لتعارض النظرية الأخرى، فتقول إن «الجلجلة» التي قيل إنها موقع صلب السيّد المسيح، ليست في مكان كنيسة القيامة، بل في موقع آخر يقع خارج السور بالقرب من باب العمود. وتضيف هذه النظرية أن السيّد المسيح سار عبر هذا الباب، حاملاً صليبه، إلى خارج الأسوار. وهناك كتابات تشير إلى أن هذا الباب كان منذ القرن الميلادي السادس، يسمّى «باب القدّيس أسطفان»، لاعتقاد سائد بأن هذا القديس رُجِمَ حتى الموت في ذلك الموقع، في عام 39 الميلاديّة. وظل هذا الاسم سائداً على الباب حتى أيام الصليبيين. غير أن موقع رجم القديس المذكور حُدِّد في ما بعد بأنه في المكان الذي يقوم عليه الآن المتحف الفلسطيني، عند الزاوية الشمالية الشرقية من السور. وانتقل اسم القديس إلى الباب الذي يلي باب العمود نحو الشرق، وهو الباب المسمّى الآن «باب الزاهرة». وفي القرن الخامس عشر للميلاد، انتشرت نظريّة ثالثة تقول إن القديس أسطفان رُجِم بالقرب من الجانب الشرقي من السور، وسمّي الباب القريب من الموقع الجديد هذا باسمه، في اللغات الأوروبية. وهو باب لا يسمّيه العرب باب القديس أسطفان، بل «باب ستنا مريم»، وهو أول باب يصادفه المرء عن يمينه، حين يسير من الشمال إلى الجنوب، عند الزاوية الشمالية الشرقية من السور.
ويكون اسم القديس اسطفان قد أطلق بذلك على ثلاث بوابات في أحقاب مختلفة، تباينت فيها النظريات في المعتقدات الشعبية، ابتداء من باب العمود. وعن تسمية الباب يقول السيّد سليم سعد، وهو أحد كبار الأدلّاء السياحيين في القدس، إن ممراً تحدّه الأعمدة كان يمتدّ من باب العمود حتى كنيسة القيامة، وإن هذا هو أساس التسمية.

باب ستنا مريم
يسمَّى بالإنكليزيّة St. Stephen's Gate، للأسباب التي سلف ذكرها أيضاً. ويُطلَق على هذا الباب أحياناً اسم «باب الغنم»، بسبب الاعتقاد السائد بأن سوق الجمعة كانت تجرى في الجانب الشرقي لا الشمالي، من السور. وإذا دار المرء حول الزاوية الشمالية الشرقية من السور، حيث برج اللقلاق، باتجاه الجنوب، فإن أول باب يصادفه عن يمينه، هو باب ستنا مريم، الذي يطل على بِرْكة ستنا مريم وكنيسة الجثمانيّة، وقبر السيّدة العذراء، في خارج السور. ويحيط بالباب في الجزء العلوي منه أسد منحوت في كل من الجانبين، وهذا ما جعل البعض يسمّونه «باب الأسد». ويرى المؤرّخ باركلي، أن نحت الأسدين عند هذا الباب، يذكّر بالفنون الصليبيّة، أكثر مما يذكّر بالفنون العربيّة. غير أن العصر الصليبي سبق بناء هذا الباب، مما ينفي نظريّة باركلي جزئياً. وتقول الروايات المتناقلة بين مسلمي القدس، إن الأسدين أقدم بكثير من الباب، وإن الخليفة عمر أتى بهما إلى هذا المكان، فاستخدمهما السلطان سليمان القانوني في ما بعد، ليزين بهما الباب، عندما جرى بناؤه.
ويمتد من برج اللقلاق حتى باب ستنا مريم خندق كان ترعة في ما مضى، أقامه صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره القدس، ليمنع الصليبيّين من محاولة غزو القدس ثانية. وقد نُحت على طول هذا الخندق اسم الله عزّ وجلّ، تبرّكاً وحماية للمدينة.

الباب الذهبي
يسمَّى بالإنكليزيّة The Golden Gate. ربما كان هذا الباب الوحيد من أبواب أسوار القدس، الذي لم تتجاذبه تسميات مختلفة. وهو باب أقفله صلاح الدين عندما طرد الصليبيّين من المدينة. وهو بلا جدال أعظم الأبواب وأفخمها. ويشكّل المدخل المباشر إلى منطقة الحرم الشريف الذي يقع في الزاوية الجنوبيّة الشرقيّة من القدس في داخل الأسوار. غير أن مستوى الباب يقوم على عمق 56 قدماً، بالمقارنة مع مسجد قبّة الصخرة المحاذي له. ويُعرَف عن هذا الباب أنه مفرَد، مع أنه كان دوماً مزدوجاً. ويسمى المدخل الشمالي فيه «باب التوبة». أما المدخل الجنوبي فيسمَّى «باب الرحمة». ويعتقد اليهود أن قدس الأقداس الذي كان يتخذ الهيكل مستقراً غادره عند هدم أورشليم، وسلك الباب الذهبي في خروجه من المدينة، وأنه سيمر من هذا الباب لدى عودته إلى المدينة، في عصر «المسيح اليهودي المنتظر». وقد فشلت الأحفار الأثرية تماماً في إثبات صحة هذا الموقع، وفي العثور فيه على أدلة أثرية تثبت الناحية التاريخية من هذه المعتقدات. ويعتقد اليهود أيضاً بأن الأرواح ستعبر من باب التوبة للذهاب إلى الجنة، فيما يسلك الآخرون عبر باب الرحمة للذهاب إلى النار.
أما المسلمون، فيربطون في المعتقدات الشعبية، اسمي البابين بقصة آدم وحوّاء، ويؤمن المتديّنون من الأديان السماوية، بأن هذا الباب سيُفتَح من جديد عند قيام الموتى للحساب. وللباب الذهبي مكانة خاصّة عند المسيحيّين، فهم يعتقدون بأن السيّد المسيح دخل القدس من هذا الباب، يوم أحد الشعانين. وقد كان المسيحيّون يجرون في كل عام يوم أحد الشعانين احتفالاً يعبرون فيه من خلال الباب الذهبي حاملين سعف النخل لتخليد تلك الذكرى. وقد أصبح الاحتفال يجري عند باب ستنا مريم، بعدما أُقفل الباب الذهبي عند تحرير المدينة من الصليبيين. ويعود هذا الاعتقاد إلى خطأ في ترجمة اسم الباب في اللغتين اللاتينيّة واليونانيّة. فالمعروف أن السيّد المسيح دخل القدس من «الباب الجميل»، الذي كان ضمن المنطقة الواقعة داخل السور. وفي العصر الصليبي كان الباب يدعَى «باب الشفقة»، تماشياً مع التسمية العربية. غير أن الاعتقاد انتشر بأن هذا الباب شُيِّد في موقع «الباب الجميل». والكلمة اليونانية horaios تعني الجميل. وقد اختلطت بسبب تشابه في اللفظ، مع كلمة awreas اللاتينيّة التي تعني الذهبي، فوصل الأمر بهذا الباب إلى تسميته السائدة اليوم. ولا يُعرَف إلى الآن من الذي شيّد الباب الذهبي، ولكن الثابت أنه كان قائماً في القرن السادس للميلاد. وقد أُحدث في القرن الماضي [التاسع عشر] باب في السور على مقربة من الباب الذهبي، إلا أنه أُقفل في ما بعد على نحو لا يتيح معرفة موقعه.

الأبواب المقفَلَة الثلاثة
تسمَّى بالإنكليزية Huldah Gate. في الجانب الشرقي من سور القدس القديمة باب واحد مفتوح، هو باب ستنا مريم. وإلى جانب الباب الذهبي - المقفل - وإلى جنوب هذا الباب، على طول الجانب الشرقي من السور، ثلاثة أبواب مقفلة أيضاً هي الباب الإفرادي، والباب المزدوج، والباب المثلّث، وهي تطلّ على وادي سلوان.
والباب المثلث، المكوّن من مدخلين قديمين وثالث أحدث منهما، كان يفضي إلى ممرّين متوازيين، يؤديان إلى منطقة تحت المسجد الأقصى. وليس معروفاً مَن أقفل هذا الباب المثلث، ومتى كان ذلك. غير أن بعض الكتابات تثبت أنه كان لا يزال مفتوحاً في عام 1882.
أما الباب الإفرادي الذي أقامه الصليبيّون، فكان يفضي إلى سراديب الهيكل الذي يُزعَم أن سليمان الحكيم بناه، وهي سراديب كان يستخدمها، على ما يقال، إسطبلات لخيوله.
للباب الذهبي مكانة عند المسيحيّين، فهم يعتقدون بأن المسيح دخل القدس من هذا الباب


أما الباب المزدوج، أو «باب حُطَّة» فهو مقفل، باستثناء بوابة صغيرة أُحدِثَت فيه، وهي لا تتسع إلا لمرور الأشخاص. وتظهر في الباب آثار المعمار من عصر هيرودس، إلى جانب بعض التجديد في العهد البيزنطي. واسم حُطَّة يعود إلى إحدى «النبيّات» اللواتي جاء ذكرهن في التوراة. ولو فُتِح مدخلا الباب المزدوج، لأدّيا إلى سراديب يصل إليهما المرء حالياً من تحت المسجد الأقصى. والجزء القائم بين الباب المزدوج والباب المثلث، ربما كان من بقايا سور هيرودس القديم.

باب المغاربة
يسمّى بالإنكليزيّة Dung Gate، أي باب الرَّوْث، لأنه الباب الذي كان يُستخدَم لإلقاء روث الخيول التي كانت تُربَط في الإسطبلات. وهو أول باب يصادفه المرء في الجانب الجنوبي من السور، إذا مشى من الشرق إلى الغرب. والباب الآخر من هذا الجانب من السور هو باب النبي داود. ويُعَدّ باب المغاربة أقدم بوابات أسوار القدس القديمة، على الإطلاق، لأنه أقيم في عهد هيرودس، ولا يزال قائماً حتى اليوم. وهذا الباب، وباب ستنا مريم، هما البابان الوحيدان اللذان يمكن الدخول منهما بالسيارات إلى داخل القدس القديمة. وعلى مقربة من الباب انهار جزء من سور القدس، بفعل شحنة كبيرة من المتفجّرات وُضِعت هناك في المعارك في أثناء النكبة، عام 1948.
ويطل باب المغاربة على وادي سلوان، الذي كانت مزارعه تُخَصَّب من روث الخيول. وكان العثمانيّون يقفلون بوابات القدس، إلا في الحالات الملحّة. وكان هذا الباب يُفتَح لتموين المدينة بالمياه.

باب النبي داود
يُسمَّى بالإنكليزيّة Zion Gate، كذلك يسمّيه المسيحيّون «باب عليّة صهيون»، نسبة إلى العليّة التي تقع على مقربة منه، خارج السور. وهو العليّة التي عاشت فيها السيّدة العذراء 15 سنة مع يوحنا الإنجيلي، قبل أن تموت. ويقال إن في هذه العليّة جرى العشاء السريّ الذي أقامه السيّد المسيح لتلاميذه، يوم خميس الجسد. ويعتقد البعض أن النبي داود مدفون هناك، فيما يعتقد آخرون أن النبي داود مدفون في بيت لحم، وهي التي يعتقدون أنها مسقط رأسه. ومن هنا اختلفت التسميات. وثمة اعتقاد بأن الحجر المستدير الذي يعتقدون أن قبر السيد المسيح سُدَّ به، موجود هناك بقرب الباب. ويقول حاج قديم إن الإمبراطورة هيلانة، تعرّفت إلى الحجر، فحُفِظ في كنيسة القيامة، إلى أن «سرقه الأرمن» بحيلة بارعة ونقلوه إلى مكان قرب باب النبي داود.
وقد أُقفل الباب في وجه المارّة، منذ عام 1948 لوقوعه عند حدود التقسيم الذي جزّأ القدس بين العرب والإسرائيليّين. وأصيب بأضرار بالغة شوّهت منظره، لكثرة الرصاص والقذائف التي كان يطلقها الإسرائيليون على العرب في هذا الموقع. ويتجنّب الزوار المرور بقرب بوابة النبي داود بسبب كثرة الألغام المزروعة هناك، تماماً مثلما كان يتجنب المرور بقربه الحجاج في القرن التاسع عشر، بسبب وجود مكان تجمّع للبُرص على مقربة منه.
* باحث ومؤرخ لبناني