قال فان غوخ في التعبير عن صعوبة الكتابة: «الشعر يحيط بنا في كل مكان، لكن وضعه على الورق، للأسف، ليس بسهولة النظر إليه». يمكن اسشعار هذه الوعورة ونحن نطالع العمل الأدبي الجديد للشاعر المغربي صلاح بوسريف «يااااا هذا تكلّم لأراك» (دار فضاءات ـ الأردن). عمل يعود فيه بوسريف بالبحث والتنقيب والاشتغال المضني إلى زمن جلال الدين الرومي، وما رافقه من تفاصيل وحيثيات جعلت منه أسطورة تمشي على قدمين. إن حياة جلال الدين الرومي متوفرة في الكثير من الكتب والوسائط الأخرى، لكن نقل هذه الحياة شعرياً إلى الورق مهمة شاقة، وفيها الكثير من المغامرة. إننا أمام تجربة متفردة حقاً يمكن أن نسميها جزافا:«رواية شعرية»، اعتمد فيها الشاعر كل التقنيات التي توظفها الرواية من سرد وتبئير ومشهدية وتناص وحوار وتعدد الشخصيات وتداخل الأجناس والمتون.

يستدعي الشاعر سقراط لتكون حكمته الشهيرة «تكلم لأراك» عنواناً للكتاب، ومدخلاً مهماً لمتنه الفلسفي العميق، حيث قيمة الرومي على وجه الخصوص، وقيمة الإنسان بشكل أعمّ تتجلى في ما يحمله من معانٍ وما يصرّفه من أفكار وتصورات.
يجعل بوسريف من دعوة جلال الدين الرومي إلى الصمت أو «التحرّر من الكلام» عتبة أولى لكتابه، لكنّ هذا الصمت سيتجلى في أكثر من 400 صفحة من الشعر، وربما العتبة الثانية هي ما يعلل ذلك، فحين يقول ابن عربي: «أنت غمامة على نفسك، فاعرف نفسك»، ندرك أن الشاعر يتبنى هذه الدعوة الصريحة إلى المكاشفة، إلى رفع الحُجب عن الذات كي تبدو على الأقل لصاحبها على ما هي عليه. في نهاية نصه المطوّل، يضع الشاعر جملة لشمس الدين التبريزي هي بمثابة ختم من الشمع لهذا القمقم الروحي والسحري «ابحث عن مرآة لنفسك». بين جملتي ابن عربي والتبريزي اللتين تحدّان الكتاب وتمثلان منطلقه ومنتهاه يقف جلال الدين الرومي، ويقف معه الشاعر في تلك المناطق الأكثر وعورة على أرض الاختبار النفسي، حيث كلّ ما ينشدانه معاً هو الوصول إلى حالة «العري الروحي».
هذا المنزع الصوفي سيغمر الكتاب من بدايته إلى نهايته، سيغلّفه ويبطّنه، حيث يحضر التصوف لغةً وموضوعاً. يبدو للقارئ أن بوسريف منشغل بالسيرة الشعرية لابن عربي، وما ابن عربي في بداية الأمر ونهايته إلا قناع يختفي خلفه الشاعر ليكشف عن ذاته. لكن كيف يستطيع الكاتب أن يتقنّع على مدار 456 صفحة؟ ذلك هو مكر الشعر.
نجد أنفسنا أمام كتابة شعرية مختلفة، حيث لا يطلق الشاعر العنان لخياله ولمشاعره كي تتدفق بشكل عفوي على الورق، بل يضبط عملية الكتابة ويربطها بمراجع تاريخية وثقافية، تمثلت في تشكيلة خاصة من كتب التراث، حيث يذيّل صفحات الشعر بهوامش تحيل القارئ على ابن الأثير وابن عربي والنِّفَري والبِسطامي والحلاج والجامّي والتبريزي وفريد الدين العطار وذي النون المصري، فضلاً عن الكتب السماوية.
تبدأ الملحمة الشعرية والسيرية للرومي برحلة الخروج من «بلخ» وتنتهي بمونولوج شعري جميل ومؤثر دار بين الشاعر وطيف الرومي على قبره. هذا المونولوج حقيقي وليس استعارياً، فبوسريف وجد نفسه مضطراً إلى الرحيل نحو اسطنبول، ومن ثم الوقوف أمام قبر الرومي في قونية ليكون لهذا الخطاب عمق روحي آخر. فليس الأساسي دائماً هو تقنيات الكتابة وما يرتبط بالشعر من صنعة، وهذا أمر يملكه بوسريف بشكل جليّ. بل إن الأهم هو صدق القول وحرارته. هذا الوقوف سيتكرر أمام مرقد التبريزي أيضاً، وسيتعقب الشاعر آثار الرومي في قونية التي صارت منذ أن دفن فيها الرجلان الرمزان محجاً للعشاق والمحبين.
ما بين بداية الكتاب ونهايته، ما بين خروج الرومي من بلخ رفقة والده إلى لحظاته الأخيرة في قونية مشيٌ وركض في حقول حياة الرجل، في منخفضاتها ومرتفعاتها، حيث يتغير الإيقاع وتتغير الحقول الدلالية وتتغير المشاهد بتغير الحالات النفسية، ما بين الإشراق والخبو، والانفتاح والانطواء.
يقف الشاعر عند ضفتين أساسيتين لولاهما لما كان الرومي ذلك النهر الروحي الذي ظلت مياهه تروي محبيه على مدار قرون. يتعلق الأمر من الجهة الأولى بابن عربي الذي توقف عنده الشاعر بشكل عميق، بوصفه أحد الأصول الأساسية والموجهة لحياة الرومي وفكره، وإن كان الرومي يبدو غير منصف في استحضار ابن عربي والاعتراف بتأثيره. ومن الجهة الثانية شمس الدين التبريزي الذي كان بمثابة مركز تحول تغيرت بسببه سكة قطار الرومي.
يذيّل صفحات الشعر بهوامش تحيل القارئ على ابن الأثير وابن عربي والنِّفَري والبِسطامي والحلاج


إن التبريزي كان أيضاً ذلك العنصر المكمل الذي جعل فلسفة الرومي أكثر عمقاً وشساعة، بل يكاد المرء يجزم بأن الرومي الذي نعرفه اليوم هو، إلى حد كبير، صنيعة التبريزي. يلخص الشاعر تلك العلاقة الروحية الغريبة بينهما، بما فيها من أوجه اختلاف وتشابه بين الرجلين، على النحو التالي: «وشمس الدين حين يبتسم يبكي/ دون أن تنزل دمعة من عينيه/ وجلال الدين حين يبكي يبتسم/ دون أن تفتر عن شفتيه ابتسامة/ لا فرق بين الجرحين/ فالكثير من الضحك / ليس سوى بكاء».
لا يتوقف الكتاب عند حياة الرومي في بنيتها المغلقة، بل يمتد إلى السياق التاريخي الذي تشكلت فيه هذه الحياة، حيث الحروب، وفساد الذمم وما لاقاه المتصوفة من عنف وصلب وقطع رؤوس. يتوقف أيضاً عند غطرسة المغول الذين خرجوا من منغوليا واحتلوا طريق الحرير، وعند لحظة إحراق الكتب، تلك اللحظة التي ما زالت ممتدة إلى حياتنا الراهنة، حيث الإحراق المعنوي للكتاب وللكاتب أيضاً، في مجتمعات عربية ترى مؤسساتها وأفرادها، على السواء، في الأدب على الأخص، وفي الثقافة عموماً، ترفاً أو عنصراً مشوشاً على طمأنينتها، وتعامله بالتالي معاملة طفل متخلّى عنه.
ليس الكتاب استعراضاً لحياة الرومي وما جاور هذه الحياة، بغية سرد شعري مجاني، بل هو استقراء لتاريخ البشرية، عودة إلى الماضي لقراءة الحاضر، ومحاكمته. إن مشاهد الاعتداءات والجرائم التي قام بها المغول في بغداد هلال القرن السابع لا تختلف كثيراً عن مشاهد الهمجية التي رافقت دخول داعش إلى الموصل هلال القرن الحالي. يمكن القول إجمالاً إن كتاب صلاح بوسريف دعوة ضمنية، بأسلوب شعري متميز، إلى البحث عن مساحات روحية في عالم تجعله المادة يوماً بعد آخر أكثر جشعاً وأقل إنسانية.