عبد الفتاح كيليطو... حمّال الحكايا | إن قراءة المشروع النقدي للباحث والمبدع عبد الفتاح كيليطو، تثير مجموعة من الأسئلة، التي تهم سؤال النقد ونظرية الأدب من جهة، والعلاقة «الخفية» بين النص الأدبي والقارئ من جهة أخرى. وبالفعل، فالعنوان الذي اختاره لعمله الجديد «بحبر خفي» (دار توبقال ـ 2018)، يخفي بين ثناياه واقع القراءة اليوم في ظل نظرية الأدب الجديدة، وطبيعة العلاقة التي تتشكل بين القارئ والمقروء. وهذا المقال سيحاول ملامسة مختلف هذه القضايا من خلال مؤلفه الجديد.
«القارئ»، منمنمة فارسية من القرن 17، اللوفر، باريس

المنهج أفق لقراءة جديدة لأدبنا القديم
إن ما يميز المشروع النقدي لكيليطو هو الانتقال السلس والمرن من تاريخ الأدب، ومن الأدب إلى الأدبية، واستحضار القارئ داخل هذه المنظومة المترامية الأبعاد. فهل نفترض إذن أنّ الابتعاد عن الكتابة بالحبر- بالمعنى المجازي الذي سنتطرق له في ما يلي من الفقرات - هو ما يبتعد بالقارئ عن روح النص الأدبي؟ إن سؤال قراءة التراث الأدبي العربي استأثر بالجزء الأوفر من اهتمامات كيليطو في هذا المؤلف. لذا نجده يطرح سؤالاً جوهرياً حول واقع القراءة وعلاقتها بالتراث الأدبي «ماذا سنفعل بهذا التراث الباذخ؟ كيف سنقدمه عندما نخاطب ليس الجامعيين فحسب، وإنما القارئ العام؟»
إن شعرية النص التراثي والأدبي بشكل عام ــ بحسب كيليطو ــ تتحقق من خلال اختراقه للسر الخفي إذا استعرنا تعبير الناقد الفرنسي كاستكس، ومن خلال استدراج القارئ إلى الحفر في هذا المعنى الغامض والغريب. فـ «فكم من الكتب أحببناها وشغفنا بها، ثم أعدناها ذات يوم إلى مؤلفيها» (ص 59). إن القراءة بهذا المعنى محاولة لاستنطاق الأدوات التي يمنحها النص الأدبي، دعوة للمنهج وحوار حميمي يؤسسه هذا القارئ مع النص.
هكذا يمكن أن نستنتج أنّ «بحبر خفي» استمرار لمشروع كيليطو الذي يروم تأصيل منهج قراءة النص التراثي بالخصوص، وإعادة وضعه ضمن أنساق السيرورة العامة للأدب من خلال الحفر في مكنوناته، وجمالياته مستثمراً مناهج النقد الحديثة، بكثير من الحذر والملاءمة المنهجية، ومتجاوزاً عثرات القراءات النقدية السابقة التي تبتعد بالنص الأدبي التراثي عن القارئ وتفرض عليه ترسانة من المفاهيم.
قراءة مشروع كيليطو من وجهة نظرنا، لن تتحقق إلا على ضوء مفاهيم تنتمي إلى تخصصات مختلفة مثل: الملاءمة كما في لسانيات تشومسكي، الخفي والظاهر، البنية السطحية والعميقة، التداولية والخطاب والمتصل والمنفصل… لكن عكس ما عودنا الخطاب النقدي العربي، نجدها مفاهيم تذوب في عمق النص ولا نعثر سوى على آثار جانبية تؤشر عليها. وهذا يعني أن كيليطو استعمل الكثير من الدهاء العلمي والحصافة النقدية لإخفاء سلطة هذه المفاهيم، تاركاً المعنى الخفي يطفو على السطح.

بين الاتصال والانفصال
إن العلاقة بين القارئ والمقروء الذي يقدمه كيليطو، أضحت ملغومة بالأسئلة ومرهونة بمجموعة من التفاعلات الثقافية المرتبطة بسيكولوجية وأنساق التلقي، وأفق الانتظار القارئ الجديد. وهكذا ينزع الإنتاج النقدي لكيليطو إلى توطيد تلك العلاقة بين إنتاج أدبي تراثي متنوع، وقارئ منفصل يحيا في ظل أنساق ثقافية مغايرة. مما يجعل القارئ اليوم يبتعد عن أفق مغامرة الأدب، وأصبح معه «الأدب في خطر» بتعبير تودوروف. فالحبر كما يتجلى انطلاقاً من عنوان المؤلف، يمثل الطبيعة في تقابلها مع الثقافة، بكل ما يحمله الحبر من معان مجازية تؤشر إلى الجمال والعشق والحميمية. إن الحبر هو السائل الذي يخصب الورقة-النص، ويجعلها تتحول من بياض قاحل عقيم إلى حامل لروح وحياة جديدة، أي معان جديدة تولد مع استمرار فعل القراءة.
ولذا، فعملية القراءة حسب ما ذهب إليه كيليطو، لا تنفصل عن فعل بناء تصور قبلي للقارئ والسعي في نسج علاقة حميمة، خفية. فحين يرتبط القارئ بالنص وتحصل اللذة بتعبير بارت، نتحدث عن الحميمية التي تنشأ بين القارئ الذي يبحث عن الخفي، وبين النص الذي يتمنّع في البداية مثل امرأة. وقد اعترف كيليطو في مقال «طه حسين وأوروبا» أن ميوله لهذا الناقد، يرجع إلى أنه كاتب «مهووس بالقارئ عندما يشرع في الكتابة، يضعه دائماً نصب عينيه، فيعقد معه حواراً ودياً نهائياً» (ص 79). إنه بهذا المعنى كاتب يكتب بحبر خفي. إن مؤلف «بحبر خفي» يتوقف من أجل قراءة المخفي في بعض أعلام الأدب المحدثين (فلوبير، بورخيس، طه حسين، إدوارد سعيد)، بالإضافة إلى هاجس الكشف عن أدبية النص التراثي والأدبي بشكل عام من خلال التقاط اللحظة الأدبية الموغلة في الهامش، لكن الموغلة في العمق (الفاصلة، الرحيل، المرآة والتناسخ، الكرسي والعشق، الهوية واللغة...). في هذا الإطار، سيحملنا كيليطو إلى ارتياد عوالم وأجناس أدبية متباينة الهوية الزمانية والمكانية (المقامة، الليالي، مؤلفات الجاحظ، معاجم الأدباء ومصنفاتهم، نصوص روائية غربية رائدة بالإضافة إلى نصوص روائية ومذكرات...).
استأثر التراث الأدبي العربي بالجزء الأوفر من كتابه الجديد

كلها نصوص تحمل هاجس القراءة وصورة المؤلف في علاقته بالقارئ، وبتعبير عنوان المقال الأخير «صورة المثقف حمالاً». فكيليطو يستعمل صيغة المبالغة (حمّال) للكشف عن الأبعاد السيكولوجية والثقافية لهذه الصورة. يقول في سياق قراءته النقدية لمذكرات إدوارد سعيد «ارتسمت صورة المثقف كحمال في ذهني وأنا أقرأ سعيد، وعلى الأخص في مذكراته «خارج المكان»...» (ص 95). يستمر المؤلف في الحفر في صورة الحمّال في النص الأدبي، قائلاً: «بالإضافة إلى هؤلاء، ثمة حمالون يبدون لأول وهلة أقل أسطورية وأقل تألقاً، وأخص بالذكر السندباد الحمال، صاحب السندباد البحري» (ص 94) لينتهي إلى إبراز الأثقال التي يحملها سعيد، كما وردت في صيغة المبالغة «حمال» التي ترتبط أساساً بالهوية والغربة.
هكذا فرحلة قراءة النص حسب كيليطو تستدعي «تكيفاً مع عادات النص وشعائره، وتتطلب بالتالي مجهوداً ذهنياً ليس باليسير، فما أكثر ما تخلينا عن السفر وامتنعنا عن الإبحار» (ص 19).
ومن خلال تحليل مجموعة نماذج التراث الشعري الجاهلي، ينتهي كيليطو إلى نتيجة أخرى تحدد أفق التلقي والعلاقة بين القارئ والمقروء، وهي الغرابة والانفصال عن الواقع.

ما وراء الفاصلة
من مظاهر الخفي في النص الأدبي حسب قراءة كيليطو، هو ما سماه الفاصلة أو قراءة ما وراء الفاصلة. فالأدب يلتقط تفاصيل الهامش الأشد غرابة كما نعاين من خلال حضور الفاصلة في مقالة «من أجل فاصلة». وتأسيساً على ذلك، ينبه كيليطو إلى أنه لا أحد فكر في ما وراء معناها الخفي «أليس الفن إدخال الغرابة على الألفة، والإبهام والغموض على الشفافية والوضوح؟» (ص 18). ويمكن أن نقارن بين حضور الهامش وتفاصيله وعلاقته بالغرابة في مشروع هذا المؤلف، وبين ما سماه السيميائيون النواة الدلالية.
ويظهر ما يمكن أن أسميه الهامش أو النويات الدلالية بتعبير السيميائيين، في النص الأدبي من خلال قصص «الطست والنمل» التي ساقها في مقالة تحمل نفس التسمية والتي لا ننتبه إليها، لكنها تحمل مؤشرات جمالية النص. إن ما يجعل هذا السفر ممتعاً مع النص التراثي الأدبي هو طابعه الاستكشافي حسب المؤلف… ولعل استحضار كتاب «ألف ليلة وليلة» والحيوان ومحكيات معاجم الأدب ومصنفاته القديمة التي تعتبر بحق تضاريس صعبة المراس، أهم النماذج التي تحيل على هذه الأرقام السرية المخفية. فنجد كيليطو يتمرن بنا على ارتياد هذه التضاريس والجغرافيات «للاهتداء إلى سر مفعول الواقع، سأذكر نصاً آخر للجاحظ يغيب فيه هذا المفهوم رغم ذكر ما قد يحيل عليه...» (ص 48). وبالتالي يمكن القول إن كيليطو يبحث في أدبية النصوص القديمة والحديثة، من خلال التقاط الهامشي المشبع بدلالة خفية، أو ما سماه بارت «مفعول الواقع». فضلاً عن قضية القراءة وعلاقتها بالقارئ والغرابة في النص الأدبي، يستحضر كيليطو قضية أخرى في هذا المؤلف ترتبط بقضية القراءة، وهي الترجمة باعتبارها إحياء للنص المترجم من جهة، ومن جهة أخرى يشبّه عمل المترجم بالوازن و«ككل وازن يكون المترجم محل ريبة ومراقبة، تحوم حوله الشبهات» (ص66). فميزان الترجمة يمكن أن يميل إلى كفة تلك اللغة أو تلك. ومع ذلك تبقى عملية البحث عن المعنى من قبل المترجم نسبية، فقد تميل كفة لغة على حساب لغة أخرى دون أن ينتقص ذلك من إبداعية الترجمة.