لم تكن تعتني أبداً بطقوس الكتابة، ولم تعتقد يوماً أنّها ستربط قلمها بتسلسل زمنيّ ومكانيّ دقيق وشبه مقدّس. بعد عامٍ من التوقّف المُقلق، عادت لكتابة روايتها، اصطادت الطقس كما تصطاد الفكرة، اعتبرته مصادفة رتّبها قدرُ الكتابة فوافق مزاجها المتقلّب.في الثالثة فجراً، تمرُّ سيارة إسعاف مسرعة من شارع بيتها تشقُّ بصافرتها ليل النيام وهدوءهم. تستيقظ هي نشطة، تعدّ قهوتها وتجلس عند طاولة الكتابة المُطلّة على الشارع وتشرع في الكتابة. استغنت عن المنبّه الذي طالما كان شراً لا بدّ منه، يفزعها صوته فتسكتهُ مرّتين وهو يصرُّ على إيقاظها، فتقوم مجبرة متكاسلة.
لم تلمسه منذ شهر، صافرة الفجر أنهت جدليّة البغض والحب بينهما. كانت تبدأ صباحها برغبة جامحة في تحطيمه وتنتهي ليلاً بمراضاتهِ واستعادة الثقة بينهما.
تستلهمُ تفاصيل كثيرة من رحلة سيارة الإسعاف الّتي تنشّط خيالها نحو مواطن الوجع ومواجهة أسئلة كبيرة حول الحياة والموت، تتشعّب الأحداث وتتعقّد وتعود لولبيّا للحدث الرئيسيّ وبطل روايتها: سائق سيّارة إسعاف.
هناكَ شخصٌ ما في هذه الجهة من البلدة يتألمُ أو يحتضرُ، يطردُ شبح الموتِ والمرض ويستغيثُ، أما هي فتمارسُ الكتابة امتناناً للألم وانتصاراً على الفناء.
تخلقُ الشخصيّات من العدم، تبثُّ فيها حياةً وتمنحها أدواراً تطول وتقصر حسب ما يُمليه عليها خيالها وقلمها. شخصيّات تسأل وتتأمّل الحياة في رحلة بين مكانين متشبّثة بطوق النجاة المُتاح؛ سيّارة إسعاف. «ماذا لو أوقفتُ السّيّارة هنا على قارعة الطريق وتمشّيتُ على ذاك الجسر؟ماذا لو استبدلتُ صافرة الرّعب هذه بموسيقى هادئة؟ وسط دهشة الطبيب المرافق والمريض، أوقف السّيّارة على جانب الشّارع ونزل منها. مشى بهدوء نحو الجسر وهو يصفّر لحناً هادئاً. وقف عند الحافة وصاح بأعلى صوته:..».
وتوقّف قلمها هنا بعد شهرٍ من الكتابة المتواصلة.
تحجّرت شخصيّاتها كقطع الشطرنج الّتي تنتظر يداً تنقلها إلى مربعٍ أسود أو أبيض، أو تقتلُ الملك وينتهي الأمر. عجز قلمها عن تحريك أيّ قطعة مقدار حبة رمل، وعجز خيالها عن تصوّر المسار الّذي يجب أن تسلكه نحو موت الملك أو محاصرته. لم تعرف هل غادرتها متعة اللعب أم أنّ خللاً أصاب طقسها اليوميّ بعدما توقّفت سيّارة الإسعاف عن المرور من شارعها؟
في صباح اليوم التالي كانت في مكاتب شركة الإسعافات الّتي حفظتها من الشّارة التي ظهرت على واجهة السّيارة حاملة بطاقتها الصحافيّة. تظاهرت بأنّها تُعدُّ مقالاً مهماً عن الخدمات الطبيّة في المنطقة بما فيها خدمات الإسعاف.
أجاب الموظّفان على أسئلتها بحماس غريب.
- لقد توقّفت سيّارتنا عن العمل في هذه المنطقة منذ عام تقريباً، ولكنّ المكالمات ما زالت تصلنا كلّ ليلة تقريباً من رقم واحد لم يتغيّر قبل الثالثة فجراً بقليل. صرنا ننتظرُ المكالمة بشوق، ننتظرُ صوتاً أنثويّاً رقيقاً يقرأ علينا فصلاً من رواية مدهشة عن سائق سيّارة إسعاف.
كادت تختنق.
لم تتصل بنا منذ يومين ولم نعرف نهاية الرّواية. أضاف أحدهما بحسرة.
هل أستطيعُ الاتّصال بها؟ سألت بصوتٍ مخنوق.
ضغط على الأرقام في هاتف المكتب وناولها السّمّاعة.
في حقيبتها رنّ هاتفها الجوّال.
* فلسطين