المطعم في ازدحام رهيب، حركة دائبة وطلبات لا تنتهي، منذ اشتغلت فيه منذ ثلاث سنوات، وأنا أتحرج من الظهور أمام الناس، وأخشى أن يعرفني أحد النزلاء أو الضيوف الكثيرون الذين يترددون على هذا المكان، فتسقط هيبتي وأصبح موضع هزء وسخرية من قبل الجميع. أنا رجل مسالم، أحرص دائماً على إرضاء الجميع، الناس كلهم يحافظون على المظاهر، ما شأنهم بما أعمل، وإن كان شغلي الذي يدر علي الربح الحلال محترماً، لمَ يراه الناس من الأعمال المحتقرة؟ استطعت بالعمل الإضافي الذي أقوم به بعد الدوام الرسمي، أن أحصل على منزل محترم، يحتوي على حديقة جميلة، زرعتها بأنواع من الأشجار الباسقة ذات الثمار اللذيذة، أشجار نخل فارعة، وكروم تتسلق الجدران ورمان مع ورود مختلفة الألوان والأنواع رائحتها تخلب الألباب. نصبت الأرجوحة التي طلبتها زوجتي الحبيبة، نجلس في الأماسي التي تبقى لي بعد الانتهاء من عملي الاثنين ساعات قليلة أقضيها في راحة من عناء الأعمال الكثيرة، والتي تثير التعب طوال النهار. أستمع إلى أحاديث زوجتي التي لا تنقضي، ومطالبها التي تتجدد كلما نفدت إحداها...سيارتنا أصبحت قديمة الآن
المطعم في حركة دائبة، أستمع إلى طلبات الزبائن، وأنفذها في التو. من طبيعتي، أتميز بالنشاط، لا أحب الكسل والتباطؤ في الحركة، ما إن يطلب مني أحدهم شيئاً حتى أسارع إلى تلبيته على الفور، هذا رزقي، وعليّ أن أحافظ عليه كما أعتني بعيني! أسجل كل ما يطلبونه مني، شراب، طعام على اختلاف أنواعه، مطعمنا يقدم كل أنواع الأطعمة، المشرقية والمغربية، وأصنافاً كثيرة من أنواع المقبلات والسلطات. هذا الصباح كان متعباً لي. طلاب الثانوية، يرهقونني بأسئلتهم التي لا تنتهي أبداً، وخاصة الطالب المشاغب حسام، يمطرني باستفساراته عن الأمور السياسية التي يعلم تمام العلم أنها من الأحاديث الممنوع التطرق لها داخل الفصول. سألني بوقاحة حاولت ألا أبدي اهتمامي بها.
- ما رأيك أستاذ، هل يعتبر الشخص الخائف الجزع، مخلوقاً طبيعياً؟ ألا ترى أنه في منتهى درجات الجبن والخنوع ؟
أحاول أن أقنعه أنني موظف لدى الدولة وعلي أن أنفذ برامجها التعليمية، دون التطرق إلى الأمور السياسية التي أجدها تشتت أذهان الطلاب وتبدد انتباههم، ولكن كل ما أقوم به لكسب هذا الطالب المشاغب إلى صفي يبوء بالفشل الذريع، رأسه جامدة ولا يقبل الإقناع، تماماً كما كنت أنا، في مثل سنه.
ناقشتني أختي هذا الصباح بوضعي، استنكرت هي أن أقوم وأنا الأستاذ بعمل النادل بعد ساعات العمل الرسمية. وحين وضحت لها حالتي الصعبة، وأن راتبي المتواضع لا يكفي للقيام بمتطلبات أسرتي، ظهر عليها الإنكار لكلامي
- أي أسرة، زوجتك الأمية لوحدها؟
أنا رجل مسالم، زوجتي امرأة، ومن حقها أن تطلب مني ما تريد، من يفيها حقوقها، وهي جليسة المنزل لم تحصل على تعليم كاف. وهذا الصباح حين ناقشني الطلاب بالأمور السياسية، وكيف يكون الإنسان المحترم، وأن الشخص المناسب في المكان المناسب، سمعت قهقهات مكتومة من الطلاب يحاولون إخفاءها. كنت سابقاً محل التقدير والاحترام، وحين أخذ عصام هذا يقود الطلاب، ويقنعهم بمناقشة الأمور الممنوع مناقشتها في حصة الدروس الاجتماعية، وجدت أن منزلتي التي كنت أحرص عليها بين الطلاب، قد أسيء إليها كثيراً. المطعم هذا المساء في حركة دائبة، وازدحام قل نظيره في المساءات الماضية، ربما لأن غداً يوم عطلة رسمية، الكراسي حول الموائد قد امتلأت بالضيوف، وكل منهم يطلب شيئاً مني، أسجل الطلبات ورقم كل مائدة وأنواع طلباتها.
- أنت ترهق نفسك بالعمل، دعني أساعدك.
مسكينة زوجتي تريد أن تعينني، كيف يتأتى لها مساعدتي وهي لم تكمل الثانوية العامة.
أنهيت تنفيذ ما طلبه الزبائن مني.
- أيها النادل، تعال هنا.
يسكب الزبون العصير على المائدة آمراً إياي:
- هيا أيها النادل، امسح ما هرق مني من شراب.
اعتدت دائماً أن اضبط أعصابي، وألا أدع الزمام يفلت مني، أتنفس بعمق، محاولاً إدخال ما تيسر من هواء إلى رئتي المتعبتين، بهدوء ذهبت إلى المائدة المعنية، ومسحت ما فيها من بلل، ينطلق صوت أعرفه جيداً:
مرحباً أستاذ.
* العراق