مع مطلع السبعينات، أصدر أحمد المديني (1949) كتاباً سردياً بعنوان «العنف في الدماغ» عن حركة «أنفاس» التي تركت أثراً كبيراً في الوعي الثقافي والسياسي لدى أهل الكتابة والفكر في المغرب الحديث. كان الالتزام بصورته الأكثر وضوحاً ومباشرة، هو شعار تلك المرحلة. لكنّ هذا الشعار الكبير لم يمنع المديني من الذهاب بالأدب نحو الجماليات التي لا ترتهن إلى الذوق الجمعي بالضرورة، بل تنعتق جهة الابتكار والتنويع والسعي نحو التفرد والتغريد ليس خارج السرب، بل معه، لكن بصوت مختلف. لقد كان التجديد شاغلاً مبكراً في حياة الرجل. لذلك، فالعنف الذي بدأ في دماغه قبل خمسة عقود كان في العمق بمثابة طنين مستمر لا يتوقف، يحث صاحبه في كل لحظة على التجريب في الكتابة السردية بأكبر مساحة ممكنة. والحقيقة أن المديني بدأ تجريبياً وما زال. فالاطمئنان إلى شكل ثابت من الكتابة، بالنسبة إليه، إماتة لها. مع كل كتاب جديد، يفتح الرجل باباً يفضي إلى طرق تختلف عما سبقها، فهو كاتب يرفع من مقام اللغة، ويعتني عناية خاصة ببناء السرود، مستعيناً في ذلك بمعرفته النقدية الوازنة التي نمّتها مرجعيته القرائية الشاسعة وسنوات دراسته الطويلة للأدب والنقد في المغرب وفرنسا.
ليس المديني كاتباً كبيراً فحسب، إنه بالمقابل تجربة كبيرة في الحياة أيضاً، وتراكمُ خبرات مستمدة من تكوينه السياسي والأكاديمي وحركته الدؤوبة على الأرض باعتباره رحّالةً يجوب الأمكنة، والأزمنة أيضاً، ومن روحه التي تجمع بين الجدّ والشغب والمرح. كتب صاحب «مدينة براقش» في القصة والرواية والنقد والسيرة والرحلة والترجمة، والشعر أيضاً. ومن عاش حياة زاخرة تشبه حياة المديني لا يمكنه أن يسلم من كتابة الشعر. أخيراً، تسلّم أحمد المديني «جائزة محمد زفزاف للرواية»، التي يمنحها «منتدى أصيلة الدولي». دعتنا هذه المناسبة لنسأله عن الجائزة، هو الذي كان على لائحة «بوكر» أيضاً قبل ثلاث سنوات، ولنسأله كذلك عن التداول والقراءة ووظيفة الكاتب، وهذه الوفرة الهائلة في الرواية والروائيين في العالم العربي اليوم

لنبدأ من الجائزة. اسم زفزاف يظهر في البداية، ثم تظهر أسماء الفائزين بها في السنوات السابقة: الطيب صالح، ابراهيم الكوني، حنا مينة، وغيرهم. ماذا يمثل كل هذا بالنسبة لك؟
- أكيد، إن نيل هولاء الأعلام الروائيين «جائزة محمد زفزاف للرواية العربية» منَحَها رمزية محمودة، وكفل لها مصداقيتها. أعتبر أن فوز  الراحل الكبير الطيب صالح أوصلها إلى الذروة منذ البداية، في حين نعلم أن الجوائز تحتاج عادة إلى سنوات وتوالي دورات كي تحصل على الاعتراف وتنال الحظوة في المحافل الأدبية، وينال التقدير مستحقيها. لقد كان إذاً تدشيناً بهياً. وبعد الطيب صالح، جاء ابراهيم الكوني وحنا مينه، ولا ننسى سحر خليفة، ليزكي الجائزة ويرسخ عمدها، نظراً إلى القيمة الفنية والبنيانية والحمولة الدلالية في أعمال هؤلاء. يشرفني أن التحق بهذه الأسماء، بالعلامات المميزة التي أضحت تتسم بها هذه الجائزة، وسيحفزني هذا لأنتبه أكثر إلى جدية المشروع الروائي واستحقاق أن تكون روائياً عربياً فعلاً. وفي هذا السياق، من المناسب تماماً القول بأن هناك جوائز يرسيها ويميزها مَن تسند إليهم، وأخرى ينزل مقامها ولا يرتفع مقام من ينالونها، إلا بمال أو وهم!

جاء في بيان الجائزة، في سياق توضيح أسباب الفوز أن تجربتك تتميز بـ «رصيد جمالي وموضوعي لافت للانتباه، وقدرة على الإنصات إلى نبض المجتمع والتاريخ، وتحولات الفكر والعقيدة الجماعيين، من مرحلة الاستعمار إلى خيبات التحديث، والتطرف الديني، ومن المقاومة والنضال الوطني إلى تجارب المنفى». يبدو أن الروائي اليوم هو بمثابة شاهد على العصر. لكن هل هو شاهد محايد؟ ينقل أهوال العالم إلى القارئ في شكل أدبي، أم أنه شاهد مؤثر، وظيفته أن ينتقد ويسهم في التغيير ويقود الوجهات والأفكار؟ نسألك ذلك ونعرف أنك انطلقت غرامشياً في البداية، إذ أصدرت ما يمكن تسميته مانفيستو الكتابة منذ عملك الأول.
- لنكن واقعيين بشكل واضح وسديد. لم يكن الأدب ولن يحدث أن يصبح أداة تغيير وتأثير مباشرين في الواقع والحياة، وهذا بحكم مكوناته وطبيعته. الأنظمة التوتاليتارية والأيديولوجيات وحيدة القرن، وحدهما أرادتا سجنه وحجزه في غرضية ضيقة، وسخّرتاه لما ليس من جنسه. أذكر أني حضرت مؤتمر الأدباء العرب في الجزائر منتصف السبعينات، عهد الراحل بومدين، وكان رئيس اتحاد الأدباء هو يوسف السباعي، وفي القاعة الكبرى في قصر الصنوبر مقر المؤتمر، أمضيت الجلسة الأولى أنظر باستغراب وسخرية وعجب إلى شعار كبير بحروف بارزة يعلو الجدران؛ كان على ما أذكر «الأدب كالخبز  في الحياة». لقد ذهب كثير من الآداب والنصوص ضحية فهم وتأويل قسري من هذا القبيل.
لم يكن الأدب ولن يحدث أن يصبح أداة تغيير وتأثير مباشرين في الواقع والحياة


نعم، إن الأدب مؤثر في الحياة، ومستمد من نسغها، شاهد على الواقع ومصوّر له من نواح شتى، وللإنسان هو وجدان وعيش وسلوك وحلم لرؤية مجتمعية إنسانية بأكملها ـ ما تحسبني أقول هنا إلا كلاماً مكروراً ـ إنما على طريقته، وبأدواته. الأدب لغة لا مدفع أو محراث، الأدب صور واستعارات، ومعنى ودلالات بدوال هي تركيب للمفرد وجمع لشتات المتعدد في تعبير التلميح والعلامة والجمال، مهماته يعرفها ويتكلف بها ويؤديها، ووفق نظام محكم ومتسق ومتواصل التجريب تعرفه الأجناس الأدبية. وسوى هذا تهريج وضوضاء، وبهلوانيات كلام هو خارج الأدب. هذا ما فهمته، واتخذته تدريجاً عقيدةً، وسرت على سنته. ابتدعت منه سنّة لنفسي، لكتابتي الجامحة في صباها، الصادرة في يفاعتها، المزلزلة برغاب التغيير وإسقاط كل شي في عنفوان شبابها، ثم تلك التي أظن تجري اليوم سلسبيلاً في نهر رسب في قعره الكثير، أو هي تربة خصبة تبدو الآن رخية، بطحاء، مطواعاً، بينما معضلاتها ومختبرها في المياه الجوفية التي تجري تحتها... هذه هي الرواية، سطح وعمق، حديث وهمس، صوت وبوح، جملة خبرية وجمل إنشائية، مرتع القول ومجتلي البلاغة. أن تكتب، هذا وحده التزام بالوجود، وإيمان بالحق المطلق للإنسان في هذا الوجود، وبالجمال الضروري لقول هذا، ولست في حاجة إلى مزيد.

حين وصلت روايتك «ممر الصفصاف» إلى اللائحة القصيرة لجائزة «بوكر» في نسختها العربية سنة 2015، صرّحت بأنك تريد أن تنال الرواية إعجاب القراء بسبب مضمونها، وليس بسبب إشعاع الجائزة فحسب. ماذا عن قرّاء أحمد المديني؟ هل أنت على معرفة بنوع قرائك؟ وبأشكال تفاعلهم مع أعمالك؟ وهل يسهم القراء في توجيه الأعمال اللاحقة للكاتب؟ أم أنك تنتمي للفئة التي تضع مسافة بين الكاتب وكتاباته، بمعنى أنّ مهمة الكاتب تنتهي عند تقديم مخطوطه للناشر تاركاً مسافة فاصلة بينه وبين المتلقي.
- إذا كنت سائقاً، وسائقاً محترفاً، فإنك لا تشغل نظرك وأنت تسوق ببندول عداد السرعة، وإنما بالطريق، وكذلك الكاتب وهو يكتب، له طريقه التي تمضي فيها عربته، يفترض أنه يعي مختلف «أعضائها» ووظائفها. القارئ حاضر في ذهنه ومخيلته وقاموسه حضوراً ضمنياً، وبينهما حوار بناء ومتفاعل، لا وصاية فيه ولا تبعية.
الكاتب الذي يرتهن سلفاً إلى قارئ بعينه، منمط، لا يأتي إلا بنص نمطي، لأنه يضع نفسه سلفاً في خدمة نص سابق بلغة وأسلوب وبلاغة وشفرات وأسقف ومحتويات سابقة عليه، يستفيد منها إن لم يستنسخها. بينما ضرورة الأدب، والإبداع عامة، الذي يسمّى عند الغربيين «خلقاً»، والرواية «تخييلاً» هو أنك تأتي بشيء، بصورة على خلاف ما هي الصورة، ولغة على خلاف ما هي اللغة، حين تربك العلاقات الاتفاقية النسقية وتأتي بنسق مضاد، وبحبكات مختلقة لا قبل لها في المألوف. فالحكاية وحدها لا تكفي، ولا اللغة أيضاً. فما بالك لو قلنا إن الإبداع الأحق بالتسمية، هو ما يتعدى هذا إلى صنع وتكوين قارئ بديل، ممكن، محتمل، من الواقع وأعلى منه، أي كالتخييل بالضبط. وأعلم بعد هذا أني لا أستهين أو أستخف بالسوق والبضاعة ومن يقتنيها أو يعافها. صحيح أن بضاعة الكاتب ليست من النوع سريع الرواج والاستهلاك، وقد تبور حتى في زمنها أحياناً لجهل السوق بها أو لأي سبب آخر عابر، إنما هذا لا يكفي. على الكاتب أن يعكف على مشروعه بدأب ومثابرة ومساءلة مداومة، كي يعرف هل سيارته تمضي في الطريق الصحيحة، وما نوع المطبات لو وجدت، وبأي سرعة عليه أن يقود عربة الكتابة بدون حاجة للنظر إلى عداد السرعة. وقد يعنّ له كما عنّ لي زمناً أن يحلّق عالياً كالبراق، ويخترق الآفاق، ليعود بعد عقود كي يحط بهدوء، زاده فاكهة ناضجة فوق أرض مهاد معطاء.

«لا أستطيع أن أعيش من دون أن أكتُب. الكتابة مسألة حياةٍ أو موت بالنسبة إليّ». هذا الكلام لك. لكن إلى أي حدّ يمكننا تصديقه؟ هل أنت جاد في الأمر إلى هذه الدرجة؟
- بل أنا من يسألك هل أنت جاد في هذا السؤال، فيما مضمونه عندي على درجة من البداهة، ربما يحتاج تبينها والاقتناع ببداهتها إلى معرفة عقيدة الكاتب، وثقافته، وتربيته، وذوقه، وأسلوب عيشه كما نعرف نحن مثلاً، إلى حد ما فقط. فحياة الكاتب كوكب مجهول هو وحده كائنه ومداره، مهما ادعى من ادعى وحلل بمنهج ومصطلحات. أقول كما نعرف بعض مالارميه، همنغوي، وكامو، وبوكوفسكي، وأحمد المجاطي، ومحمود درويش، وخاصة أرجع إلى الكاتب الإسباني خورخي سامبرون (1927-2011) الذي كتب أغلب أعماله بالفرنسية، أشدد منها على كتابه الفخم والمفحم L’écriture ou la vie وترجمته الأفصح هي «الحياة الكتابة؛ الكتابة الحياة» بوصفهما ظهراً لوجه، وهكذا، وهكذا الأمر بالنسبة إلي، ولا أبالغ إن قلت أكثر. وإذاً، أضف إلى هؤلاء العبد لله أحمد المديني. وعلى الناس أن لا يستكثروا  على الكاتب هذا ما استطاعوا إليه سبيلاً.

مرةً قلت إن الكتابة تشبه المرأة حين تصدّ عنك لا تتعب نفسك في ملاحقتها. هل أحسست يوماً بأن الكتابة ذهبت ولن تعود؟ ماذا تفعل في لحظات النضوب وتمنّع الكتابة؟
- نعم، نعم، ذكرتني بالذي مضى، أجل، إن صدتك امرأة لا تلاحقها، اتركها لحالها، وانصرف لنفسك، ولا أقول بالضرورة للبحث عن سواها. للنص، للإبداع كرامة كما للمرأة، يستحقانها بجدارة. المرأة أجمل نص، إن عرفت أن تراه وتقرأه. وأن تلاحق أحدهما بلا رغبة، ولا شغف، فأنت تريد أخذ، بل اغتصاب ما ليس لك، ويجفوك.
الحق أن معيني لم ينضب، بل العكس أحس وأجد أني كلما تقدم بي العمر، أمسك أكثر بزمام الكتابة وأطور أدواتها، وأحياناً أتساءل بقلق: هل يسعفني العمر لأحقق ما أحلم به؟ نعم، تعترضني وقفات صعوبة، انسداد طريق، لحكاية، لمسار شخصية، لحبك أدق، للعثور على الجملة الأنسب، دعك من جملة البداية، وجملة القفل، إلخ. وتعتريتي أوقات كآبة، سوداوية، بالبرتغالية أفضّل «سوداد» saudade هذا المزيج من الكآبة والشجن والاغتراب، وخيبات ومصاعب في الحياة، أضف إليه أحياناً إحساساً باللاجدوى في عالم عربي مدمر، متخلف، رغم عيشي في بلد متمدن، يتقلب فى الهزائم والنكسات، يسود فيه الاستبداد، وقيم الاستهلاك التافهة، وتندر فيه مكانة القيم الرمزية. لكني ما ألبث أن أسترد عزيمتي، وأمسك بلجام فرسي، وأواصل ما أنا بصدده، فيسلسل لي النص قياده، واسترد صفوي وحبوري، أفرح كطفل بلباس العيد، لكي لا أعطي فرصة أخرى لمزيد هزيمة، فأنا لست مشروعاً شخصياً، بقدر ما أندرج في مسار أمة وطموحها، وكتابتي لا تعني شيئاً بدون هذا الانتماء. ثم إني، وكنت ذكرت هذا في إجابة السؤال السابق، هذا جزء ووجه للحياة، وللكتابة، ولن أعيا، ولن أتراجع، ولن أركع، ولن أنكص، إلى الأجل المحتوم.

تَوجَّه الجميع إلى كتابة الرواية. وتوجّه الجميع إلى تسليط الأضواء عليها على حساب أجناس أدبية أخرى. هل يبدو لك هذا الأمر دليل صحة وعافية أم أنه مبعث خوف؟ كيف ينظر المديني إلى هذه الوفرة اللافتة، قياساً بما مضى، في الروايات والروائيين؟
- يطرح هذا السؤال بتواتر في الفترات الأخيرة، متداولاً بصوت مرتفع وملحاح في الإعلام الثقافي، وبتردد والتباس في المحافل الأدبية، وكذلك بين الكتاب أنفسهم. بل إنه سؤال بات يمتلك سيرته، مُذ أطلق الدارس والناقد الأدبي الحصيف الأستاذ جابر  عصفور  تسمية أو عنوان «زمن الرواية» على حقبة عربية تمتد من نهايات التسعينات وصعوداً، شهدت فيها بيئاتنا الأدبية غزارة في مضمار كتابة الرواية، وانبثاقاً لفصيل إن لم أقل لجيل مختلف من كتّاب الرواية فى العالم العربي، يطوّر ويجدد في معمار وجماليات ومنظورات الرواية العربية. وتدريجاً، يتبوأ هذا الجنس الأدبي المقام الأول بين الأجناس والتعبيرات القولية بين الأدباء. لقد كانت تسمية أستاذنا جابر  عصفور إذاً تذهب في اتجاه تبجيل الرواية وصفية ونقداً وتدريجاً تحصيل حاصل لمعطى طفق يستقر  إلى حد أن دور النشر  أفسحت له المجال الواسع، عينها على كم المبيع، مقابل إما ضمور التعبيرات الأخرى، أو قلة إقبال القراء على منتوجها. فيما يمثل السؤال الذي أمامي محطة ثانية وكم أتمنى أن تكون الأخيرة في سيرة العنوان النقدي التبجيلي الأول. أعني إدراجه للرواية العربية في الحاضر في مرحلة التشوش، بل الاختلال شبه التام، وانحراف هذ الجنس الأدبي العظيم عن مسار يليق به. باختصار، يطرح السؤال اليوم وهو يلمز الرواية ويغمز من قناة كتابها، في آن، ومن أسف، لا يجافي الصواب. أجل، إن المنشور الأدبي العربي الأول في السوق حاضر هو  الأغلب، بل الطاغي، بل لا تجد ناشراً يقبل منك مجموعة قصصية أو ديوان شعر إلا بعد شفاعة قريش.
ساهم الناشرون بدورهم في تكريس حالة طبيعية ومصطنعة في آن واحد، وسيطول بي الأمر لو أردت شرح أسبابها وبواعثها، ما يدخل في نطاق سوسيولوجيا الأدب، وتاريخ الأدب، وتطور الفنون الأدبية وكيفيات نشأتها وازدهارها، وصولاً إلى أفولها إلخ. وهذا مبحث ينبغي إنجازه توطئة لمثل هذه الأسئلة بغية الفهم الملائم لها، عِوَض التباكي والنحي باللائمة هنا وهناك وعلى هذا وذاك. لن أدين ظاهرة الجوائز التي انتعشت في السنوات الأخيرة، ورأى فيها بعضهم أحد أسباب تكاثر الإقبال على كتابة الرواية، وانحشار الدخلاء في أوراقها. إذاً، المعضلة ليست الجائزة، هي بمثابة شهادة تقدير واعتراف يحتاج إليهما الكاتب رمزياً في مساره، حبذا لو يحصلان في حياته، زيادة عن ثمرتها المالية التي تسعفه في حاجات العيش الضرورية. ونعلم جميعاً أن الكاتب العربي لا يستطيع أن يوفرها من ريع كتبه، هي عبارة شبه مضحكة ومؤسية في حالته؛ وإنما في مستوى الأعمال والمعايير  والأجواء، هي شديدة التفاوت وتطبعها شوائب كثيرة تتكرر وتقضم قيمتها، مثلما يقضم وينتقص من الرواية العربية جحفل يخبط خبط عشواء في حياضها لينال بركة الجائزة أو أي اعتراف آخر غير مستحق. لنعد إلى صواب الأمور، لنقل بأن ما نعاينه في السوق الأدبية العربية، وأبعد منها وأوسع، بشأن انتشار النص الروائي ورواجه، وما يتأذى البعض من غثه الهائل، لا ينبغي أن نعتبره محبطاً، وسيئاً كله، فلتتكاثر الرواية ما شاء لها، وليتناسل كتّابها أو كتبتها، ليزد التراكم كي نقرأ، ونتعلم أن نقرأ، ونعرف كيف نفرز ونميز، ويتوفر لدينا النقد والقراءة الفاحصة، إذ  تنخل الحب من الزؤان. فللإبداع زمنان: زمن نشره، خروجه للناس، وزمن تلقيه وتقويمه وهو مديد وعسير، ونحتكم فيه إلى العارفين، ليذهب الزبد جفاء، ويمكث في أرض الأدب الأصيل والجدير، وسواه لغو وقبض ريح!

درستَ النقد الأدبي في المغرب وفرنسا، ولديك أعمال تنظيرية ونقدية. الكتّاب المغاربة عموماً لديهم حضور قوي في حقول النقد، خصوصاً النقد الروائي. ماذا عن حضور المعرفة النقدية في رواياتك، والمسافة الفاصلة بين خدمة النص والتشويش عليه؟
- اِقترن انشغالي الأدبي منذ البداية بمسارين ظلا متوازيين ومتلازمين بدون انقطاع تقريباً: الأول دراسي، أكاديمي، وفيه تحققت المعرفة الأدبية والثقافة المصاحبة لها، لتنميتها، وأبعد في آفاق أوسع، وبأكثر من لغة. إننا، نحن الخريجين المبكرين لجامعة محمد الخامس، بين الرباط وفاس، وبحكم التعليم الذي تلقيناه، والفقهاء والأساتذة الثقاة الذين حظينا بهم في علوم العرب الكلاسيكية، وتبعهم رهط مكلفون بمحاضرات في الأدب الحديث، تخرج أغلبنا وهم دارسون ونقاد. لذلك ذهبنا مباشرة إلى إعداد رسائلنا وأطروحاتنا الجامعية. وفي طريق الإعداد ومجراه، طفقنا نطبق مقروءنا على النصوص، في ضوء ما تعلمنا، وتبعاً لما سعينا لاكتسابه وحدنا، زِد إلى ذلك الميل والذوق الشخصيّين. أحب أن أجمع إلى هذين العنصرين طرف الموهبة، أو الاستعداد الفطري لدى الإنسان للقول، أو الفن. المهم التعبير عن شأن مكنون في النفس، ودائماً بالعلاقة والتفاعل مع شيء موجود في الخارج، أي التنقل بين المحسوس والمرئي والمدرك، الذي نفهمه، نعقلنه، نؤوله حسب نظام معرفي. هكذا ازدوج عندي المساران، بدأت بكتابة القصة القصيرة أولاً، بطريقة جامحة، فجاءت مجموعتي القصصية الأولى «العنف في الدماغ» (1971). وبشهادة النقاد والدارسين، أول النصوص التجريبية في السرد في المغرب بجوار محاولات في المشرق العربي، تضمنت بمجازفة «مانفستو من أجل القصة» كمن يطلق رسالة سماوية ومذهباً للبشرية (!).. في وقت واحد وأنا أدرس بواكير ونشأة القصة في المغرب وأستقصي خصائص النوع الأدبي ومحمولاته.. فأثمر أطروحة السلك الثالث، وامتد مستقبلاً بدراستي وتدريسي في الجامعة الفرنسية، معمقاً أبحاثي عن التكون الواقعي الفني للسرد العربي، ما أثمر ثانياً دكتوراه الدولة السوربونية، وبجوارها دراسات كلفت بها في ميدان الاختصاص ولم تنقطع إلى الآن. 

كونديرا منظر وقارئ جيد للرواية وتاريخها، أكثر منه ذلك الروائي الذي تم الترويج له في مرحلة ما لأسباب ما


أحتاج أن أدقق أن المسار الأكاديمي فى انشغالي الأدبي كان محكوماً بضوابط تخصه، وهي ملزمة، وتجعل مني شخصاً هو أنا وليس أنا. بالأحرى يشتغل فيه الدارس، ويأمل في الوقت أن ينتقل إلى ضفته الثانية، المقابلة، ضفة الكاتب الذي أمامه «أوراش» عليه أن يعمل فيها: قصص، روايات، أشعار، نص ما. وفيما يخوض عمل الدارس، هو عملياً يتهيأ لها بدون قصد، كذلك، حين يكتب نصه الأدبي الصرف - وعندي المجدد دوماً بلا حدود، فاتح وجواب آفاق، ومخلخل، مزلزل، لقاموس مستهلك، ومعان مبذولة، ولغة مسكوكة، وبلاغة مستنسخة، وخيال كم مستعاد- أقول، حين يفعل تراه والموهوب من داخله جامح، عند تأسيس النص وبناء الرؤية المفردة مستخلصة من العامة، يهتدي بالمعرفة، بالقواعد، مرنة دائماً، ومطوعة، وكل ما سيجنبه الشوائب التي لا ينبغي أن يقع فيها الأدب، قبل أن يستقل في تجربة أدبية متفردة.
حرصت على هذا طيلة الزمن الذي قضيته في إنشاء كتابتي، تستغرقها الآن أربعة عقود ونيف، وتنقلت خلالها بين انجذابات وحساسيات واقتناعات إبداعية وفكرية، بقي هاجسها ومذهبها اعتبار الأدب محجتي الأولى، أمشي في مسالكه وشعابه الملتوية، لا أحب الأرض المسطحة، ولا البيوت الكاملة، العامرة، تحجب الضوء، والخيال فيها عدم أو معقم. أعتبر  أني إلى جانب وضعي كاتباً، قاصاً وروائياً، وأكاديمياً، قارئٌ محترف، بشروط الاحتراف الجدية. ومن هذه الناحية أكون دارساً، أؤمن بالدرس الأدبي، أي المعرفة الأدبية. أما النقد فليس إلا اشتغالاً بجزء منها لدى القراءة، قراءة وفحص النصوص، الجديرة طبعاً، وتمييز صحيحها من زائفها، كما عرفه القدماء، وهناك أمور  لازمنية تستوجب الفحص والانتباه، كما يطلب ابن قتيبة، وأخرى نتزود لمقاربتها بكل مستجد من المعرفة الأدبية وأدوات قراءة النص.
أحس الآن، وبعد عمر معتبر في الثقافة والأدب خصوصاً، إضافة إلى خوضي عباب الحياة وبما راكمت فيها من تجارب بأني لم أعد كاتباً فطرياً، كما بدأت، أي خاضعاً لـ«إلهام» ما سيأتيني من «وادي عبقر»، ومنقاداً لنزوات اللغة وإفراط العبارة، وتجريد البناء، وتصور  السرد كما يحلو لي فقط. إنها مرحلة الكتابة على السجية، وهذه تأتي الثقافة والخبرة والمراس لتشحذها، وتنقل إلى ما يمكن أن تمتحن فيه موهبتك، أي إلى الإبداع بأدوات محكمة وناضجة، بمشروع ورؤية، وأنت لا تتخلى عن روح المتمرد فيك، هي الجمر المتقد، لا الشهاب العابر.  
يتفق أن هذا السؤال يطرح وأنا أستعيد قراءة الكتاب المفيد والممتع لأورهان باموك، المعنون: «القارئ الساذج والحساس» يستعرض فيه تجربته ومفهومه للرواية، مركزاً على وضعين للكاتب، الروائي، مقابل القارئ، الساذج، أي من كتب على السجية، الخاضع لانسياقات الشعور وليس لتدبر  الكتابة. أما الحساس، فهو الذي يولي العناية لطرائق السرد وجماليات التعبير، ويحرص عليها أشد الحرص. وقد استعار باموك هذه المماثلة من الشاعر الألماني شيلر الذي خصص هذا التوصيف أساساً للشعر في مقال عده توماس مان أهم ما كتب في هذا السياق. الحاصل هنا أن باموك يقارب ضمنه مسألة الخبرة والمعرفة ونسبة حضورهما في العمل الأدبي، الروائي هنا، وعنده، وهذا رأيي، أنّ أفضل موقع هو الوجود بين المستويين. لا ينبغي للثقافة الأدبية أن تثقل على النص وتظهر فاقعة متكلمة، دعك مما يسمي رواية الأطروحة، وهذه منهجها التسويغ والبرهنة على رؤية أو فكرة مسبقة، شأن أغلب روايات كونديرا، وهو في نظري منظر وقارئ جيد للرواية وتاريخها، أكثر منه ذلك الروائي الذي تم الترويج له في مرحلة ما لأسباب ما... إنه إذن كاتب حساس جداً، أي قوال وخطيب ومتعالم، وفن الرواية كيفما تبلور وحسب أي منظور تجديدي، جاء يسمو  حين تسري المعرفة والخبرة والفكرة الضرورية له تحت سطحه، وتتغلغل كما هي المياه الجوفية تحت الأرض، وكله مغموس في مياه الموهبة أو الحساسية الشخصية للكاتب، له لا لغيره.