يستنفر محمد مظلوم كل ما يتعلّق بمفردة «الطائفية» في محاولة جديّة لتفكيكها من الداخل، وفحص ميراث الكراهية في العقل العربي الإسلامي، والممارسات العنفية التي أفرزتها الخنادق المتقابلة في نبش التراث الغيبي والاتكاء عليه في مواجهة الطوائف الأخرى. في كتابه «الطائفة والنخبة الطّائفية: ولاء الجماعات في صراع الأمم» (دار الجمل) يطرح الشاعر والباحث العراقي أسئلة جذرية حول المعضلة الطائفية، التي لطالما بقيت خارج السرديات النقدية، عدا محاولات محدودة في نقد الفكر الديني، من دون المساس بالاختلاف المذهبي الذي انتهى راهناً إلى حروب أهلية متنقّلة. يتهم صاحب «الفتن البغدادية» النخب الثقافية بإهمال هذه المسألة بسبب «الخوف المزدوج من مواجهة الغول المقدّس» المتمثّل بالعزوف عن مقاربة المشكلة الطائفية، وغياب نزعة الانشقاق عن الإرث الجماعي. هكذا لجأت النخب إلى إنعاش اللحظة الطائفية «عبر الحفريات باتجاه الماضي» وهو ما أدى إلى إنهاك الحاضر، و«إحياء مومياءات قديمة واستنطاقها بنوع من الوحي الخرافي للتفكير نيابة عن الإنسان المعاصر». وإذا بهذا النصّ الغيبي يفرض حضوره بسطوة خليط غير متجانس من المقدّس والمدنّس، والسياسي والاجتماعي، والإرث الأدبي/ الفقهي. ورغم اعتنائه بالعراق كمثال، إلا أن حيثيات الصراع يمكن تعميمها على جغرافيات أخرى مشابهة، ذلك أن وعي الجماعة الطائفية يحمل السمات والأوهام نفسها، ويتمثل هذا الوعي، وفقاً لأطروحات الكتاب بثالوث (الطائفة، والهوية، والثقافة)، هذا الثالوث المحمول على مفاهيم قديمة جرى تحديثها وشحنها بخرافات عقائدية ستغدو مفصلية في تأصيل الصراع الطائفي إثر اجتماع «السقيفة». هكذا ستنتقل الطائفة في جغرافيا الأماكن من النواحي إلى المركز، ومن مناخها الديني والعرقي إلى المناخ الثقافي في تصادم صريح مع ثقافات محليّة أخرى كمحصّلة لدوغمائية عقلية تارةً، وهياج طائفي طوراً، بقوة اشتعال وقود الإرث الإلغائي التكفيري. وإذا بالوطن يتحوّل إلى مستعمرة، والمجتمع المدني إلى «جماعات محليّة تتمترس حول ذاتها، فتحيل الوطن إلى حلبة صراع لهوياتها المزعومة»، فيما تتمازج الهوية مع الهاوية لغوياً، بوصفها تعبيراً عن انخراط الجماعات المحلية بإرث مطويّ يجري الاعتناء به وكأنه كنز ثمين، لكنه في الواقع ينطوي على وهم متراكم، يتناقض مع أطروحة الحداثة، وراهن العولمة لمصلحة ثقافة الانعزال، وإذا بنا حيال تناقض حاد بإعادة إنتاج «أفكار قديمة في نسق حديث»، أو ما يمكن تسميته بحداثة التخلّف. ببزوغ شمس الألفية الثالثة، برزت فرصة نموذجية لإحداث قطيعة مع المفاهيم والتصورات القديمة عن الذات والجماعة، لكن حالة الفصام بين روح الانتماء إلى الحضارة الراهنة، ونزعة التمسّك بالقيم القديمة، أدت، وفقاً لما يقوله محمد مظلوم، إلى تكريس الانغلاق والانطواء الثقافي.
تبدو نزاهته النقديّة امتداداً لكتابات علي الوردي وحنا بطاطو في تحليل الشخصية العراقية
هنا، حلّ التصادم والصراع محلّ التفاعل والحوار، مع استخدام «جيل الانترنت» إمكانيات الشبكة العنكبوتية في تفعيل الموروث وتثوير وصايا الأسلاف بتقنيات حديثة، لتنشأ آليات انغلاق إضافية. هكذا تحوّل الحائط المفتوح إلى جدار عازل بإغلاق الحائط أمام كتابات الآخرين، ونبذ ثقافة الاختلاف في عملية تنافر بين «رسوخ القيم وتوالي المنجزات»، نظراً إلى التباس مكوّني الثقافة والهوية لدى النخبة العربية، وتالياً ظهور «المثقف الطائفي الجديد» بالتوازي مع ظهور جندي المارينز في ساحة الفردوس وسط بغداد، إثر الاحتلال الأميركي للعراق. وهو مثقف معبأ بتراث شقاق طويل الأمد، أسهم في إيقاظ هويات ضيّقة موغلة بالشخصانية الانتهازية المحض، وذلك عن طريق الترويج والانحياز للطبقات الاجتماعية القديمة، لتنتصر المساجد والديوانيات العشائرية والحلقات الطقوسية على حساب المجتمع المدني المأمول، في صراع مكشوف بين «الخلافة والإمامة»، وبين «ابن تيمية وابن المطهر»، و«النواصب والروافض» في نسخة جديدة أكثر عنفاً، تنهض على ثقافة الكراهية والتكفير والاغتيالات المتبادلة. ويلفت صاحب «عراق الكولونيالية الجديدة» إلى تمثّلات طائفية أخرى تتجلى بالانشقاق الفتنوي، وذلك بتغيير الولاء من طائفة مذهبية إلى أخرى كنوع من الهداية، لكنه في العمق يرتبط غالباً بالمصالح الشخصية في المقام الأول، كما لم تفلح حوارات التقريب بين المذاهب الإسلامية من ردم المسافة بين «السنة والشيعة»، ووأد الخلافات، رغم نداءات بعض المفكرين بتعزيز حضور الإسلام التنويري. ما حصل فعليّاً هو تراجع الاعتدال أمام موجة التعصّب والتطرف، ما حوّل الجغرافيا العربية إلى «ساحة حرب أهلية مفتوحة تتغذى من خطاب الكراهية الذي رسّخه المتطرفون من الجانبين»، وبات «التراشق بالقرآن» عنواناً للخلافات المذهبية، وسيكتمل إرث الكراهية باستدعاء رمزين أساسيين هما مصدر الفتنة الأساسي. الرمز الأول هو التيار الوهابي السلفي في الفكر السني، نسبة إلى محمد بن عبد الوهّاب (1703- 1792)، والثاني هو التيار الأخباري الشيخي في الفكر الشيعي، نسبةً إلى زعيم الشيخيّة أحمد الإحسائي (1753- 1826). هكذا بدأ الصراع بين عقيدة ذات جذور حنبلية المذهب، أرادت إلغاء نحو اثني عشر قرناً من التطور الطبيعي والفهم الاجتماعي للدين بدعوى إعادته إلى صفاء مزعوم، وتيار آخر في الخندق المضاد، يتكئ إلى فكر فقهي شيعي «يتصف بالانغلاق والتشدّد والغلو، ويعتقد بالكشف والمكاشفة وينحّي العقل» في فتنة مستمرة إلى اليوم، بين الجامع والحوزة. استند محمد مظلوم إلى قراءة تاريخية أولاً وسوسيولوجية ثانياً، في تفكيك الطائفية والصراعات الدينية المتعاقبة بنزاهة نقديّة لافتة تبدو امتداداً لكتابات علي الوردي وحنا بطاطو في تحليل الشخصية العراقية. في الفصول اللاحقة، يتوقف عند عتبات اللحظة الراهنة في صناعة التغوّل الطائفي متخذاً من تحوّلات السلطة في العراق، بعد سقوط نظام صدّام حسين، أرضيّة لتطوّر بذرة الطائفية في إدارة الدولة بأفكار وقواعد أسس لها الأميركيون في مزاوجة سريالية بين الطائفية والديمقراطية على أنقاض الدولة القومية. لم تنتعش الديمقراطية في العراق الجديد كما بشّر بها بوش الابن في حربه على العراق. ظهرت الميليشيات الطائفية بدلاً منها، واستبدل الطائفيون القدامى الزي العصري بالزي التقليدي لتلميع الواجهة وحسب، من دون أن يستطيع أحد احتواء المشهد من العراق إلى بلاد الشام بدمغة كربلائية متجدّدة. ذلك أن «الأضرحة والمفخّخات هي التي ترسم جغرافيا الطوائف» بعناوين ورموز تتوزعها الطرق الصوفية والجهادية والتكايا والأحزاب والثكنات والميليشيات، وبلاغة أصولية سلفيّة، أسس لها أبو مصعب الزرقاوي كخطة استراتيجية لإشعال الحرب الأهلية في العراق، بتفجيرات تمتد من النجف إلى شارع المتنبي للكتب في بغداد. فجائع وكوارث لم تتوقّف يوماً، أطاحت صورة بلاد الرافدين، وقطّعت أوصال المجتمع العراقي إلى غيتوات مغلقة على أوهام قديمة، وأسوار عالية يصعب تحطيمها. العراق، وفقاً لما يقوله محمد مظلوم «تركة ملعونة خلّفها استبداد الحاكم وفوضى الرعية». وهنا يستعيد سيرة صدام حسين في هروبه واختبائه في حفرة، ومحاكمته وإعدامه، في قراءة متزنة لمعنى العدالة والثأر، فيما انتقل إرث البعث من شعارات النضال إلى منظومة «الجهاد». وبدلاً من تعزيز فكرة الوطن بزغت العصبية القبليّة في ارتدادات جذرية إلى ما قبل الدولة. لن نجد «مؤلف» الطائفية، وفقاً لتفكيكية رولان بارت، فالجميع هنا شارك في الإثم والخراب والانتهازية السياسية ممتطياً بعير الطائفية برداء ليبرالي، في بلاد كانت يوماً ما مركزاً للإشعاع الحضاري.