لا علم لي بمن الذي اخترع فكرة أن كلمة «الغَوْل» العربية تعني الخمرة، وأنها أصل كلمة alcohol الإنكليزية. لكنني أعلم أنها فكرة خاطئة. فالكلمة الإنكليزية إن كانت ذات أصل عربي، فهي ماخوذة من كلمة «الكُحْل» وليس من «الغول» المفترضة. وأغلب الظن أن الكيميائيين العرب القدماء، بعدما قطروا المشروبات لاستخلاص المادة المسكرة، وصلوا إلى مسحوق يشبه كحل الأعين، فأشاروا إليه على أنه «الكحل». وقد نقلت هذه الكلمة إلى الغرب كاسم للمستخلص المسكر alcohol، ثم تحولت إلى اسم للمشروبات المسكرة عموماً. وبعد ذلك عادت إلينا، ويا للطرافة، بشكل «الكُحُول» لتعني المشروبات الروحية المسكرة. أما الذي أوصلنا إلى أن «الغَوْل» هو الخمرة، فهو سوء فهم لآيتين محددتين في القرآن:
الأولى: وهي الآية 46 في سورة الصافات. وقد ذكرت فيها كلمة «الغول» مباشرة: «يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غَوْل ولا هم عنها ينزفون» (الصافات 44-46).
الثانية: وهي الآية 19 من سورة الواقعة. ولم ترد فيها كلمة «الغول» مباشرة، لكن جرى فهمها على ضوء آية الصافات: «يطوف عليهم ولدان مخلّدون. بأكواب وأباريق من كأس معين. لا يُصَدّعون عنها ولا ينزفون» (الواقعة: 17-19).
وما دامت الآيتان تتحدثان عن موضوع واحد هو خمرة الآخرة، فقد جرى وضع إشارة مساواة بين الآيتين: لا غول فيها ولا هم عنها ينزفون= لا يُصدّعون عنها ولا ينزفون. وبما أن «يُصَدّعون» فهمت على أنها تعني الصداع، صداع السكر، فقد فهم أن على كلمة «الغول» أن تعني الصداع كذلك، بناء على الاستنتاج المنطقي. وكذا صار «الغول» يعني الصداع: «الغَوْل: الصُّداع، وقيل السُّكر، وبه فسر قوله تعالى: لا فيها غَوْل ولا هم عنها يُنْزَفون؛ أَي ليس فيها غائلة الصُّداع لأَنه تعالى قال في موضع آخر: لا يصدَّعون عنها ولا يُنْزِفون» (لسان العرب). وكما نرى في المقتبس، فقد ربطت كلمة بالغول بيصدعون مباشرة.
أستاذ حسين بهزاد (1894 – 1968): تاجر شراب، منمنمة فارسية

وبما أن الصداع من نتائج شرب الخمرة، فقد كان سهلاً على متسرع ما أن ينتقل من الصداع إلى الخمرة، ليقول لنا إن «الغول» هو الخمرة التي تغتال، أي تصدّع الرؤوس، خاصة أنّ هناك من يرى أن الغول هو السّكر أيضاً، كما في مقتبس «لسان العرب».
لكن هذا كله وهم في وهم في الحقيقة. وهو وهم يستند إلى تصحيف قديم جداً حدث في آية سورة الواقعة. هذا التصحيف هو الذي فتح الباب للوصول إلى هنا. فالآية في الأصل كانت في ما أعتقد تقول: «لا يُصَدّون عنها ولا ينزفون»، أي: لا يمنعون عن الخمرة، ولا تنفد لديهم هذه الخمرة. إذ أن المنزفين هم الشاربون الذين نفدت خمرتهم وانقطعت: «أَنزَف القومُ: نَفِدَ شرابُهم. الجوهري: أَنزَف القومُ: إذا انقطع شرابهم... وأَنزف القوم: إذا ذهب ماء بئرهم وانقطع» (لسان العرب). عليه، فخمرة المؤمنين في الآخرة خمرة لا حظر عليها، ولا نفاد لها، على عكس خمرة الدنيا، المحظورة والنافدة دوماً.
ثم جرى تصحيف كلمة «يُصدّون» إلى «يُصَدّعون»، فضاع المعنى المقصود للآية. ولم نعد نفهم لا الآية الأولى ولا الثانية. فالآية الأولى فهمت على ضوء الثانية المصحّفة.
انطلاقاً من ذلك، فإن الآية الثانية تضع كلمة «يصدّون» في محل «الغول»، لأن الكلمتين تعنيان الشيء ذاته: الغول = الصدّ، أي المنع.
وتأييداً لهذا الفهم، فلدينا نقش جاهلي يستخدم الغول بمنعى المنع في ما يبدو. النقش كتبه قيس بن الأحمر، وعثر عليه فريق الصحراء، ونشره على موقعه. يقول النقش حسب قراءتي: «ذا قيس بن أحمر (أو أحمد) كتب لبني
الخزرج سلم أبلم. فلا
أوصكم ببرّ الإلّة
والبلّ والغول»
والمعنى أن الشخص المذكور كتب معاهدة «سلمُ أبلم» أي سلم يقف فيه الطرفان على قدم المساواة، كما تشق خوصة الأبلم بالتساوي: «الأبلم: ضربٌ من الخُوصِ: قال أبو عمرو: يقال إبلِم وأَبلَمٌ وأُبُلمٌ. ومنه المثَل: «المال بَيني وبينك شِقَّ الأُبْلُمَة». وقد تكسر وتفتح، أي نصفين؛ لأنّ الأبلمة إذا شقت طولاً انشقت نصفين من أولها إلى آخرها، ويرفع بعضهم فيقول: «المالُ بيني وبينك شِقُّ الأبلمة»، أي هو كذا» (ابن فارس، مقاييس اللغة).
ثم يضيف قيس بعد ذلك: فلا حاجة بي أن أوصيكم بالالتزام بالعهد، وبالقسم، وبالمحظور الممنوع.
فكلمة «الإلّة»، مؤنث الإلّ وتعني العهد والحلف: «الإِلُّ: الحِلْف والعَهْد. وبه فسَّر أَبو عبيدة قوله تعالى: لا يرقبون في مؤمن إِلاٍّ ولا ذمة» (لسان العرب).
أما «البلّ» فتعني اليمين والقسم: «وإِذا كان الرجل حَلاَّفاً قيل رجل أَبَلُّ؛ وقال الشاعر: أَلا تَتَّقون الله، يا آل عامر؟ وهل يَتَّقِي اللهَ الأَبَلُّ المُصَمِّمُ؟» (لسان العرب). عليه، فالرجل يوصي القبيلة بالوفاء بالعهد وباليمين.
وأما الغول فيبدو أن معناها الممنوع والمحظور في هذا النقش، كما رأينا في آية سورة الصافات.
بناء عليه، فالغول ليس الخمرة. أما الكلمة الإنكليزية فلم تأت منها، بل أتت من الكُحْل alcohol. والتغيير الوحيد الذي حدث هو تحويل الحاء إلى هاء غير منطوقة لا غير.
* شاعر فلسطيني