عندما يكتب إيلان بابيه مؤلفاً، أو مقالة أو يلقي محاضرة، فاعلم أنها، جميعها، ذات أهمية خاصة، علمياً وسياسياً وفكرياً. لا أذكر أن كاتباً ومؤرخاً ــ أياً كان ــ قد خدم فلسطين وحقوقنا في بلادنا مثله. وأهمية مؤلفاته وكتاباته، من دون استثناء، ــ مع أن الأخيرة منها سددت الضربة القاضية وعلى نحو نهائي لارتباطه بالصهيونية ـــ تكمن، ضمن أمور أخرى، في كونها علمية ملتزمة بأقصى درجات الانضباط العلمي. ويشهد على ذلك أيضاً صيته العلمي العالمي، وتراكض دور النشر العلمية في الغرب لنشر أحدث مؤلفاته، وترجمتها أيضاً، بما فيها دار «جامعة ييل»، التي عادة ما تخرج رؤساء أميركا، وهو جميعهم ليسوا من المعادين لكيان العدو، ولا هم محبين لفلسطين وشعبها.أهمية أعمال إيلان بابيه تكمن أيضاً في أنه يكتب من داخل مجتمع الكيان العنصري، وليس من خارجه، وأيضاً من منطلق أنه كان مقتنعاً بالصهيونية وحارب من أجلها في حرب تشرين، لكنه عندما عمق من أبحاثه بخصوص الصراع، اكتشف حقيقتها، فانقلب عليها وفضحها، ما أثار كيان العدو عليه، وحاول منعه من الاستمرار في عمله في جامعة حيفا. وعندما فشل في ذلك بسبب استنكار مؤسسات أكاديمية غربية لتلك الإجراءات التعسفية، قاطعه زملاؤه ومعارفه. ما اضطره إلى مغادرة فلسطين المحتلة حيث سرعان ما تلقفته «جامعة إكستر» البريطانية حيث يعمل الآن رئيساً فيها لقسم التاريخ.

مؤلف إيلان بابيه الجديد الصادر أخيراً بعنوان «إسرائيل» (Routledge ــــ 2018)، يأتي ضمن سلسلة «الشرق الأوسط المعاصر/ The contemporary middle east» الصادرة عن «معهد الدراسات الشرق أوسطية والإسلامية في جامعة درهام». هدف هذه السلسلة ـ وفق محررها ــ هو محاولة أولية متساوقة لدراسة القوى الرئيسة الفعالة في هذا الإقليم الديناميكي والمعقد والمهم استراتيجياً. وهذه السلسلة تقدم، على نحو مبسط ــ لكن مع الالتزام بالضوابط العلمية الصارمة ــ تحليل جذور كل دولة من دول المنطقة وسياساتها المعاصرة وعلاقاتها السياسية والاقتصادية. وهذه السلسلة تجمع خبراء من أهل الاختصاص للكتابة عن إقليم شرق البحر المتوسط وجنوبه، لذلك وجب النظر إلى هذا العمل التحليلي، والسردي إلى درجة ما، من هذا المنظور.
ينطلق الكاتب من حقيقة كون «إسرائيل» وتاريخها الحديث والمعاصر من الدول القليلة في هذا العالم المتنازع عليها.
وهو يوضح أن عمله هو عرض تاريخ تلك الدولة وتأريخها وتفحصه عبر تاريخها السياسي وتطورها الاجتماعي-الاقتصادي والثقافي وموقعها عالمياً.
يوضح إيلان بابيه أن مؤلفه ينقل رسالتين: الرسالة الأولى هي عدم إمكانية فهم الحقائق المعاصرة من دون المنظور التاريخي. الرسالة الثانية هي عدم إمكانية تجاهل الطبيعة المتنازع عليها وكذلك عدم قطعية (inconclusive) البحوث التاريخية لجذور تلك الدولة وتطورها ووضعها الحالي. بذلك، فإن الكاتب يقدم للقراء وللبحاثة أرضية علمية تمكنهم من تشكيل آرائهم.
سرد تاريخ الصهيونية المبكر (1882-1948) إلى عام 2000


قسم الكاتب عمله إلى جزءين: الجزء الأول يسرد التاريخ العام للكيان منذ ظهوره = اغتصاب فلسطين وتشريد أهلها، وينمو حول تطور الكيان سياسياً، بدءاً من تاريخ الصهيونية المبكر (1882-1948) إلى عام 2000. الجزء الثاني يركز على ثلاثة مظاهر للكيان وهي اقتصاده السياسي وثقافته وعلاقاته الدولية.
القسم الأخير من المؤلف خصصه الكاتب للحديث في صورة كيان العدو العالمية المعقدة وتأثير ذلك فيه وفي مستقبله.
ربما من الأفضل وضع لائحة المحتوى هنا مع التنويه إلى حقيقة أن كل فصل في المؤلف يضم أجزاءً عديدة.
1) المقدمة: سرد عن أرض متنازع عليها.
2) من فلسطين إلى «إسرائيل» 1800-1948، والمزدوجتين الاعتراضيتين هنا ولاحقاً مني.
3) «إسرائيل» الصغرى» 1948-1967.
4) «إسرائيل» الكبرى، 1967-2000.
5) اقتصاد «إسرائيل» السياسي.
6) الثقافة والمجتمع في «إسرائيل» القرن الحادي والعشرين.
7) مكان «إسرائيل» في العالم.
8) خاتمة: مكان «إسرائيل» في عالم اليوم.
مؤلف مهم وضروري أن يطلع عليه كل منخرط في مواجهة العدو ومقاومته، من دون أن يعني ذلك اتفاقي مع الكاتب في كافة اجتهاداته، خصوصاً تلك المتعلقة بنشوء الصهيونية.